كمال بُلّاطه في كتابات مختارة: الفنان ناقداً ومفكّراً

2023-01-31

يزن اللجمي

ربما الأكثر إحزاناً في رحيل كمال بُلّاطه المفاجئ عام 2019 هو كونه آخر فنان عربي "حداثوي" حقيقي، بمعنى أنه لم يكتفِ فقط بإنتاج وفرة من الأعمال الفنية، التجريدية بغالبها، بل ورافقها بما يعادلها كمّاً ونوعاً من الكتابات النظرية والتاريخية والنقدية التي غطّت أهمّ الأسئلة التي قد تُغني وتؤرق أي فنان عربي في القرن العشرين وما بعده.

ولد بُلّاطه في القدس عام 1942 وكبر فيها، لكنه أمضى معظم حياته في المنفى. فقد قضت الحظوظ أن يكون في لبنان يوم احتلال القدس الشرقية عام 1967 بحيث منعته سلطات الاحتلال من العودة إلى مدينته، ليبدأ بذلك ترحالاً طويلاً كان بمثابة منفى ومسيرة فنية معاً. فبعد أن كان قد تخرّج من "أكاديمية الفنون الجميلة" في روما عام 1965، وجد نفسه يرتحل من جديد إلى الولايات المتحدة، حيث تابع دراساته وعاش هناك لأكثر من عقدين، ليقضي بعدها قرابة ثلاث سنوات في المغرب من أجل القيام بدراسات ميدانية حول الفن الإسلامي، وبعدها أقام في الجنوب الفرنسي قرابة عقدين، قبل أن ينتقل للإقامة في برلين حيث رحل عن عالمنا في صيف 2019.

أمّا كتابات بُلّاطه، فقد ظلّت "منفية" ومترحلة مثل صاحبها، مبعثرة هنا وهناك عبر اللغات والمجلات وكاتالوغات المعارض، بل وظلّ بعضها غير منشورٍ أصلاً حتى صدور هذا الكتاب بعنوان There Where You Are Not، أو "هنالك حيث لا توجد أنت"، عام 2020 عن دار نشر "هيرمر" الألمانية (تحرير: فنبار باري فلود)، ليكون المجموعة الأشمل حتى الآن من مقالات ودراسات الفنان: أكثر من 400 صفحة كُتبت بين عامي 1970 و2018 مُدقَقة ومترجمة إلى الإنكليزية (قسم كبير منها مكتوب أصلاً بالإنكليزية).

تُغطّي النصوص مواضيع واسعة. يَفتتحُ الكتابَ قسمٌ عن "الفن والسيرة الذاتية" يحكي فيه الفنان عن حياته في منفى مزدوج: عن بلده بسبب الاحتلال، وعن الغرب لكونه فناناً عربياً يجري حصره في خانة "إثنية" منمَّطة. لكن بُلّاطه لا يكتفي بالتعبير عن تلك المشاعر بضمير المتكلّم، بل يربطها بشكل مستمر بتطوّر فنّه وأفكاره عن الشكل الفني: "أنا، المولود في القدس، أُبعدت عنها. حاولت من خلال الهندسة أن أعيد بناء المكان غير المقسَّم في قلبي". بالفعل تشهد لوحات بُلّاطه على أن الهندسة ــ القاسم المشترك للثقافتين العربية القديمة والغربية الحديثة ــ كانت حَلّ بُلّاطه للتوفيق بين "مركزين" وجد نفسه معلقاً بينهما ورافضاً اختيار واحد على حساب الآخر.

يمزج بُلّاطه بنفس الطريقة بين السرد الشخصي والأفكار النظرية والتاريخية في كتاباته عن شخصيات معاصرة له، حيث يحلّل بنظرة ثاقبة حياة وأعمال فنانين تشكيليين مثل الفلسطيني - الأرمني پول غيراغوسيان أو السوري مروان قصاب باشي، كما يتطرّق إلى شخصيات أدبية عالمية مثل سلمان رشدي ومحمود درويش (واحدة من ميزات بُلّاطه كحداثوي حقيقي هي اهتمامه بالأدب والفلسفة ورؤيته للفن البصري كجزء لا يتجزأ من الإنتاج الفكري ككل). في أقسام أُخرى من الكتاب، يخرج بُلّاطه عن السير الذاتية ليتطرّق إلى أسئلة مركزية في الفن العربي: عن العلاقة بين الخط العربي والفن التجريدي، مثلاً، يشرح الكاتب طريقته في المزج بين الخط العربي (خصوصاً الكوفي) وأسلوب مدرسة واشنطن اللونية التي ورث مبادئها الحداثية أثناء دراسته هناك.

عن دور المرأة في الفن الفلسطيني، يقدم سرداً مطولاً يتتبع مسيرة فنانات من بدايات القرن العشرين (زلفة السعدي) وحتى أواخره (منى حاطوم)، محلّلاً أعمالهن من منظور التهميش المزدوج الذي تعرضن له لكونهن نساء ولكونهن فلسطينيات. تطول قائمة المواضيع المطروحة: العلاقة بين اللغة والبصر، فن الأطفال في فلسطين، الانتماء والعولمة، مواضيع تتخللها تشكيلة من الصور لأعمال الفنان وغيرها من الأعمال البصرية والمعمارية المذكورة في الكتاب.

أول ما يلفت النظر في تلك النصوص هو المدى المدهش لاطلاع بُلّاطه على كتابات عصره وسائر العصور، حيث تمتد مراجعه الفكرية تمتدّ من كتابات ابن الهيثم ومنظّري الفنون الإسلامية الوسيطة وحتى تاريخ الفن الأوروبي التقليدي (هنري فوسيون) أوالفلسفة التحليلية الأميركية وكتابات جيل دولوز وإدوارد سعيد. وفرةٌ من المراجع التي لا تزدحم في كتابات بُلّاطه بشكل متعِب، بل تصطف (كما في لوحاته) بترتيب صارم ومدروس يناقض النمطية السائدة عن "كتابات الفنانين" التي غالباً ما تكون مشوّشة وسطحية.

لا يتناول بُلّاطه موضوعاً إلا ويتعامل معه بمنهجية. يتطرق إلى ثنائيات مترسخة مثل أولوية الكلام على الصور في الثقافة العربية، أولوية يدحضها بتفكيكه للحدود بين الكلمة والصورة (الكلمة هي صورة، والصورة تلمّح إلى كلمات!)، أو ثنائية "نحن والأجانب" التي ينقدها الفنان، مُظهراً أن سوق الفن المعولم يوحدنا اليوم بالرغم عنا، وأن تشبّث الفنان العربي بشوفينية هوياتية نمطية يخدم هذا السوق ومنافعه بدلاً من أن يقود إلى تعاضد عالمي بين الفنانين من أجل مقاومته.

في مقاله "نحو فن عربي ثوري" (1970)، مثلاً، وهو أحد أقدم النصوص المنشورة في الكتاب، يحاول بُلّاطه تشخيص حال الفن الفلسطيني والعربي عموماً بالعودة إلى جذور اللوحات في المنطقة. في محاولته هذه، يأخذ بُلّاطه عن المفكر الفرنسي-المارتنيكني وأبو الدراسات ما بعد الاستعمارية، فرانز فانون، نظرية مثيرة للاهتمام. يقترح فانون بأن مثقف العالم الثالث يمر بثلاث مراحل لدى تجريبه مع الثقافة الغربية المسيطرة، مراحل ينجح بُلّاطه في تطبيقها على تطور الفن التشكيلي العربي، وخصوصاً على اللوحات الزيتية التي بدأ الفنانون العرب العمل بها أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. في البداية، يقول بُلّاطه، يحاول الفنان تقليد معايير المستعمِر وتشرّب فنّه بشكل حرفي كما ليثبت قدرته على مجاراته، تتبعها مرحلة قلق يتذكر فيها الفنان أُصوله ويحاول العودة إليها.

لكن الفنان صار خارجاً عن تقاليده، "ذا علاقة خارجية بشعبه"، مما يؤدي إلى تعبيره عن تلك الأصول بلغة منمطة غريبة (كما هي حال الاستشراق الذاتي الذي عرفه الفن العربي ولا يزال). والنتيجة هي مرحلة ثالثة يدرك فيها الفنان انتماءه المزدوج ويستخدمه لإيقاظ شعبه نحو مستقبل جديد. يستخدم بُلّاطه التقسيمة الثلاثية هذه لتنظيم معرفته الموسوعية بالمشهد الفني العربي في سرد واضح ومقنع، حيث يرى أن الفن العربي في الخمسينيات والستينيات كان لا يزال عالقاً في المرحلة الثانية، وأن بوادر المرحلة الثالثة بدأت بالظهور أواخر الستينات ولا تزال تنتظر صياغة جديدة راديكالية: "لكي يواكب الفن الفلسطيني الإنسان العربي الجديد الذي تقوم الثورة الفلسطينية بخلقه اليوم، لا يمكن للفن هذا أن يطمح إلى إصلاحات، بل إلى أشكال فنية جديدة".

لا تزال توصية بُلّاطه هذه ترن في فراغ ما بعد الربيع العربي. في مقال من عام 1971، يصرّح بُلّاطه أن "هناك نوعين من الأشخاص في المجتمع كلماتهما تقل أهمية عن أفعالهما: السياسي والفنان". كتب الفنان كلماته هذه بنَفَس ثوري سبعينياتي وبصيغة المضارع، لكنْ من موقعنا اليوم في القرن الواحد والعشرين قد يكون العكس أصح؛ فبينما قد يبدو اليوم وكأن عصر فنون التجهيز والفيديو والوسائط المتعددة يحجب لوحات بُلّاطه التجريدية، فإن كتاباته تحتفظ براهنية من الصعب حجبها أو إخماد ألَقِها.

مؤرّخ فن من سورية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي