المؤرخ الأمريكي جون تولان: في عصر الأنوار كان النبي (محمد) مُحرِرَاً ومصلحاً كبيراً

متابعات - الأمة برس
2023-03-17

حوار وترجمة: عبد العزيز جدير

جون تولان مؤرخ أمريكي، وأستاذ مادة التاريخ في جامعة نانت الفرنسية، مختص في تاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب، والمسلمين والمسيحيين على امتداد القرون الوسطى. مفسراً أسباب نظرة بعض الغرب السلبية بعدة أسباب، منها انتشار الإسلام بسرعة، والقوة العسكرية، والمعرفية للمسلمين، وعجز الغرب عن الدفاع عن دينه. من ناحية أخرى يعد تولان المؤسس الرئيس لمشروع «القرآن الأوربي» الذي تدعمه وتأويه دار العلوم الإنسانية في جامعة نانت، ومنسق مشروع مؤسسة «التعددية الدينية».

نشر تولان عدة كتب من بينها.. «القديس والسلطان/التاريخ العجيب للقاء مسيحي إسلامي» (2009) «أبناء إسماعيل/المسلمون عبر العيون الأوروبية في القرون الوسطى» (2008) و»الإسلام في المخيال الأوروبي للقرون الوسطى» (2002) وغيرها. كما أسهم في عدة مؤلفات مشتركة منها «بيبليوغرافيا تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية» في خمسة أجزاء (2009-2012).

سألناه عن تاريخ العلاقات الأوروبية والعالم الإسلامي، وسوء الفهم الكبير، ونظرة الغرب إلى النبي محمد، وكيف تغيرت نظرة الغرب إلى الإسلام من النقد الشديد إلى الافتتان بالتنوير الإسلامي، واعتبار النبي محمد رمز التنوير، والعقلانية، بعد نهاية القرون الوسطى ودخول أوروبا عصر الأنوار..

كيف بدأت الاهتمام بالإسلام والانطلاق للدراسات الإسلامية؟

بدأت دراستي الآداب الكلاسيكية، واهتممت بالبحر الأبيض المتوسط خلال العصور الوسطى، ثم ساعدني الحظ فانتقلت إلى العيش في إسبانيا؛ إذ كنت أستاذا في السلك الثانوي في مدينة مدريد. وفي إسبانيا، عنيت بتاريخ هذا البلد، وبتاريخ القرون الوسطى، والمزيج بين الثقافات اليهودية، والمسيحية، والإسلامية. وبعد نهاية هذه المرحلة، شرعت في إعداد رسالة الدكتوراه في جامعة شيكاغو، وانصبت عنايتي على أحد أبرز وجوه ما يسمى بمرحلة النهضة اللاتينية، نهضة القرن الثاني عشر، يسمى بيتروس ألفونسيو، (بيير ألفونس) وهو يهودي أندلسي، اعتنق المسيحية، وترجم كتبا تتناول علم الفلك من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية، ثم ترجم كتبا عن اللغة العربية، وكتب كتابا جداليا ضد الديانة اليهودية، دينه السابق، وضمّنه فصلا ضد الإسلام. وأنا أشتغل على هذا النص، المهم والغريب جدا، الذي كان له التأثير البالغ في القرون الوسطى الأوروبية وبالضبط في القرن الثاني عشر، اهتممت بشكل أوسع بالجدال المكتوب ضد الإسلام في أوروبا لأنني لاحظت أن كثيرا من الأعمال قد أنجزت حول تاريخ معاداة الديانة اليهودية في أوروبا، انطلاقا من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو موضوع تعرض لكثير من المساءلة، لكنني لاحظت، بالمقابل، اهتماما قليلا جدا بما يسمى تاريخ معاداة الإسلام في أوروبا. واهتممت بالموضوع وكتبت كتابا حمل عنوان «(Les sarrasins)»/السارازان» سنة (2003) تعني المسلمين وتناولت فيه موضوع كيف كان ينظر إلى «السارازان» وهو الاسم الذي عرف به هؤلاء خلال العصور الوسطى من خلال الحوليات، والنصوص الجدالية، وفي ترجمات القرآن، وهو ما دفع بي نحو العناية بهذا المشروع وتطوير البحث فيه.

وما هي النتائج التي انتهيت إليها في كتابك؟

انتهيت إلى عدد من الصور المختلفة، التي تعبر عن وجهة نظر كتاب أوروبيين مسيحيين، حاولوا فهم ما هو الإسلام، وما معنى أن يأتي نبي بعد عيسى، وهو أمر غير مقبول بالنسبة إليهم، ويرفضه العقل، ومن ثم أيضا بدأ البحث لفهم ما الأسباب التي دفعت بهذا النبي إلى المجيء؛ ولذلك قيل أحيانا إن الإسلام نوع من الإلحاد، وهو نسخة غير شرعية من الديانة المسيحية. وسعى هؤلاء الكتاب إلى أن يفهموا ما أسباب نجاح الإسلام، وانتشاره عبر بقاع العالم. ذلك أنه يجب أن نفهم أنه حتى القرن الثالث عشر والرابع عشر، ساد شعور قوي بالضعف الثقافي من لدن اللاتينيين، سواء من ناحية القوة العسكرية التي ميزت العرب والمسلمين، أو الثروات، كما الغنى الثقافي والفكري، الذي ميز هذه الحضارة. وقد أقلق هذا الشعور المسيحيين وهم يتساءلون لم أصبح السارازان/الشرقيون أقوى منا، على الرغم من أن دينهم نسخة مزورة من ديننا المسيحي. إنهم يزرعون فينا موجات من القلق، ولذلك يجب أن نفهم أسباب هذه القوة لندرك أسباب القلق ونتخلص منها.

يجب أن نتساءل هل هو سوء فهم أم تراه شيئا أعمق من ذلك. ذلك أننا نشعر في الغالب الأعم أننا لا نتفاهم، لا نفهم جيدا الآخر.

وهل أسباب سوء الفهم هذا وبالتالي المواقف التي تبناها هؤلاء الكتاب، كانت دينية، أم سياسية أم عرقية؟

يجب أن نتساءل هل هو سوء فهم أم تراه شيئا أعمق من ذلك. ذلك أننا نشعر في الغالب الأعم أننا لا نتفاهم، لا نفهم جيدا الآخر. هناك مقالة عالجت الموضوع كتبها وليد صالح ، وقرأتها في حينها، ويبين فيها العناية الكبرى التي سادت خلال القرون الوسطى حتى القرن السادس عشر، في الغرب المسيحي بالديانة اليهودية، أي هناك عناية كبرى بدراسة النصوص الدينية اليهودية، لكنها كانت محكومة بالعداء نحو اليهود والعنف. وعلى النقيض من ذلك، كان في العالم الإسلامي عدد أقل من المثقفين الذين يدرسون التوراة ويتعلمون اللغة العبارية، وكان هذا المجتمع الإسلامي مجتمعا متسامحا مع اليهود. يسود الانطباع أو الاعتقاد أنه كلما تعرفنا على بعضنا بعض أصبحنا أكثر تقبلا للآخر، وأكثر تسامحا، لكن الواقع يقول شيئا آخر.

وهل كان الميل في كتابك «السارازان» إلى مقارنة الحضارات، والديانات، والشعوب، والمراحل التاريخية.. هو السبيل لفهم الأسباب؟

صحيح، نلمس ذلك عند قراءة الكتاب. وبعد ذلك ألقيت نفسي بين يدي مشروع بمعية زميلين، أحدهما هنري لورنس أستاذ في الكوليج دو فرانس، والآخر جيل فنشتاين، الذي غادرنا قبل بضع سنوات للأسف. وهكذا كتبنا معا كتابا ضخما تحت عنوان «إسلام وأوروباـ خمسة عشر قرنا من التاريخ» (2009). ولما كانت كتب عديدة نشرت في موضوع العالم الإسلامي وأوروبا، وكتبت كلها في الغالب الأعم من منظور أوروبي، فقد حاولنا أن نكتب كتابا متوازنا نرى فيه بالطبع العالم الإسلامي منظورا إليه من وجهة نظر أوروبية، لكننا حرصنا، أيضا، على أن يشتمل الكتاب على النظر إلى العالم الأوروبي بعيون عربية إسلامية. وهو تمرين مهم جدا حقيقة. وهو كتاب تركيبي عوضا عن أن يكون كتاب بحوث. واستقبل الكتاب استقبالا حسنا لأهمية المقاربة.

ألا ترى أن سعة العلاقات لم تدرس بكل الدقة في امتدادها وعمقها؟

بالفعل، ولذلك انتهينا إلى أن العلاقات عميقة وتمتد إلى زمن سحيق، وعمرها قرون. علاقات لا يمكن اختزالها بشكل كاريكاتيري يعكس الاحتقار وعدم الاحترام الذي يميز بعض الاستشراق الغربي أو أكثره. وقد اعتبرنا أن عمل المؤرخ يكمن في إبراز العلاقات المركبة، والمعقدة، والغنية التي ميزت الماضي. من ذلك مثلا ما تجلى في الجزء الذي كتبته من الكتاب، وينصب على القرون الوسطى حيث تلفت نظرنا تلك الصورة التي تمثل مصدر إزعاج دائم: الصدام الحضاري، وعالم الحروب الصليبية، والصليبيون ضد المجاهدين، وحين ننظر إلى كل هذه المحاور بتفصيل، سواء على ضفة المغرب، أو على الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط نجد تحالفات بين طنجة وجينوة ضد تونس وبِّيز، وتتبع المصالح المنطق السياسي والاقتصادي، ويظل المعطى الديني حاضرا على الدوام، ولا يمكن القول إنه الأهم، بل هو مجند لتبرير أشياء معينة ومختلفة. وليست الأفكار الدينية وحدها هي المحدد لكل شيء، وليست هي الأهم من غيرها.

وكيف كانت خطة تحرير الكتاب؟

كتبت أنا الجزء الأول الخاص بالقرون الوسطى، والممتد من الفترة التي انطلقت من بدايات الإسلام حتى المرحلة العثمانية، ومن المرحلة العثمانية إلى القرن التاسع عشر تولى البحث فيها والكتابة جيل فنشتاين، ساعياً إلى تقديم صورة مكتملة لما كانت تمثله أوروبا بالنسبة للإمبراطورية العثمانية. ومن المعلوم أن جزءا كبيرا من هذه الإمبراطورية كان يقع على الأرض الأوروبية، كما تناول غزو هذا الجزء من أوروبا، وتدبير شؤونه من لدن الإمبراطورية العثمانية، وعرج على طبيعة العلاقات الدبلوماسية، والثقافية وغيرهما مع أوروبا. بينما عالج هنري لورنس وضعا صعبا، هو المتخصص في تاريخ الإمبريالية الفرنسية في الشرق الأوسط، إذ تناول غزو نابليون لمصر، وركّز على التاريخ السياسي والدبلوماسي للفرنسيين والإنكليز في الشرق الأوسط.

كيف ترى احتلال أوروبا لمجمل دول القارة الافريقية ومنها الدول العربية الإسلامية تحت ذريعة تحضير هذه الشعوب ونشر المسيحية؟

لا يمكن أن نقول إن هناك سببا واحدا ووحيدا لتفسير ظاهرة تاريخية مثل هذه. هناك رجال دين من الكاثوليك والبروتستانت كانوا يرون في الحركة الاستعمارية سبيلا لكسب أرواح مؤمنين جدد لدينهم، وهناك من الناس من يرى مناسبة لتحصيل غنائم اقتصادية، وهناك فريق آخر يعتقد، وهو مقتنع بذلك، أنه يحمل الحضارة إلى الشرق.. وهكذا فهناك أسباب متنوعة ومتعددة.

وماذا عن كتابك «ماحومي الأوروبي» وليس النبي «محمد» كما هو اسمه الحقيقي؟

يأتي الكتاب عن تمثيلات النبي محمد في الغرب، وفي أوروبا خاصة. وفيه أميّز بين محمد النبي الشخصية التاريخية، وبين (ماحومي) الأنا الآخر للنبي، أي الصور التي رسمها الأوروبيون للنبي من القرون الوسطى حتى يومنا هذا. ولا يمكن في كتاب واحد رصد كل ما قاله الأوروبيون عن النبي، لكنني حاولت أن أختار العبارات والتمثيلات التي بدت لي مهمة وتصلح لإبراز التنوع الكبير وتوضيحه، وكذا اختلاف تمثيلات النبي. طبعا، كان هناك كثير من الجدل في نصوص تقدم النبي محمد كنبي «غير حقيقي، يقدم معجزات غير حقيقية ليخدع الشرقيين» وهي أشياء أشار إلى بعضها القرآن. لكن هناك أيضا، خاصة انطلاقا من القرن السادس عشر، صورا إيجابية، وأخرى يلفها الغموض، إذ نقف في سياق الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت حيث ستتم دراسة القرآن ما بين البروتستانت للعثور على حجج وأدلة تفند فكر الكاثوليك. وعلى العكس، سيقوم الكاثوليك بمهاجمة البروتستانت عبر مقارنة النبي محمد بمارتن لوثر المصلح الديني ليقولوا إن «محمدا كان رجلا سيئا بالتأكيد» لكن لوثر كان أسوأ منه.

إذن .. تم توظيف النبي محمد سلاحا بين الطرفين لمهاجمة كل منهما للآخر. لكن البروتستانت كانوا أكثر انفتاحا وفهما لرسالة النبي، لأنهم فهموا أن الدين أداة للتحرير عكس الكاثوليك؟

بالفعل، فهم وظفوا شخص النبي محمد بحثا عن حجج قوية ضد الكاثوليكية. وهكذا نشر أحد البروتستانت، وهو عالم كبير وموسوعي من سويسرا، في مدينة «بال» ترجمة للقرآن كانت أنجزت قبل أربعة قرون من لدن روبير دو كيتن، وهو إنكليزي عاش في إسبانيا. وكانت هذه الترجمة هي الأكثر شهرة في القرون الوسطى ونشرت في بال سنة (1543) نشرها تيودور بيبلياندير، وهو موسوعي بروتستانتي، وكتب المقدمة مارتن لوثر. وقد جاء في تقديم لوثر بكل وضوح أن نشر القرآن هو السبيل لمحاربة الأتراك، عبر عرض ونشر ما سماه «أكاذيب محمد» لكنه يضيف قائلا إن القرآن ينفع في محاربة البابويين أي الذين يتبعون المذهب الكاثوليكي. وذلك لأنه خلال المقارنة وجد عدة أوجه شبه بين الكاثوليكية والإسلام. وهكذا يتغير توظيف الإسلام في القرن الثامن؛ إذ أصبح سلاحا في وجه الكنيسة، أشهره فلاسفة الأنوار الذين ناهضوا رجال الدين. وسيقدم هؤلاء صورة ايجابية جدا للنبي محمد باعتباره بطلا ضد الكنيسة ورجال الدين. فقدم هؤلاء النبي كمصلح كبير. وهي الصورة ذاتها التي قدمها نابليون بونابارت عن النبي، في ما بعد، إذ قال إن النبي مصلح كبير، وهو صاحب دين موحد، وقد فهم أن الكنيسة مؤسسة فاسدة، وسلطة رجال الدين لا حدود لها.. ولذلك ألغى النبي محمد سلطة رجال الدين لينشئ علاقة مباشرة بين المؤمنين والله. حدث كل هذا ضمن سياق عام، في إنكلترا القرن السابع عشر، ثم فرنسا القرن الثامن عشر، حيث كان الهدف الحقيقي هو سلطة الكنيسة؛ الكنيسة الأنغليكانية في إنكلترا، والكنيسة الكاثوليكية في فرنسا. وفي كل هذه الحالات تم توظيف صورة النبي محمد كسلاح للمواجهة والتوضيح، وتقديم الحجج.

وكيف تقيّم فترة حكم المسلمين، (والمسيحيين واليهود دون تمييز) الأندلس؟

إنها فترة مهمة في تاريخ التواصل بين الأوروبيين اللاتينيين والمسلمين، سواء نظرنا إلى ذلك من زاوية الترجمات، والتبادل التجاري، أو غيرهما. فقد تعددت يومها أشكال التواصل بين الأندلس والجزء الشمالي المسيحي من إسبانيا، والأندلس وبقية أوروبا. وهي مهمة سعى المؤرخون الإسبان، في ما بعد، إلى إلغائها، أو إخفائها بل وطمسها من الذاكرة الوطنية الإسبانية. وقد شرع الأمر يتغير منذ بضعة عقود خاصة منذ مرحلة حكم فرانكو. والآن، على العكس من ذلك، خاصة في الأندلس، والمواقع السياحية أصبحنا نرى الإلحاح على الإشارة إلى هذا الإرث.

وهل يمكن القول إن العالم يتجه نحو تمازج الأجناس وبذلك تخف حدة الشوفينية، والوطنية العمياء، واليمين المتطرف؟

لا شك في أن في ذلك بعض الحل، العالم يتعولم أكثر من السابق، والناس يقبلون على السفر بشكل أكبر، والناس يتمازجون أكثر مما كان عليه الأمر في سابق العهود، وفي الآن ذاته هناك ردود فعل «حركات وطنية» من جميع الجهات. يمكن أن نأمل أن يكون التمازج الثقافي والاجتماعي، وغير ذلك، هو ما يمكن أن يخرجنا جميعا من الصراعات التي يغرق في بعضها العالم في الوقت الراهن.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي