المولدي عزديني.. سؤال النقد الجذري عند نيتشه

2023-03-21

"فلسفة القيم النقدية عند نيتشه: استشكال الإتيقا وسؤال النقد الجذري" عنوان الكتاب الذي صدر حديثًا عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، لأستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة والباحث التونسي المولدي عزديني.

يسعى الكتاب إلى دراسة طبيعة العلاقة بين "استشكال الإتيقا" (تأسيس حقل قِيم نقدي متعلّق بشكل الحياة الحرّة، يقع في ما وراء الخير والشر، أي في ما وراء المفهوم التقليدي للأخلاق) من ناحية، و"سؤال النقد الجذري" (أي "الجينيالوجي") للمنظومة التقليدية للأخلاق من ناحية أُخرى، ويحاول استكشاف ميدان "الإتيقا" بوصفه حقلًا مستقلًّا من المسائل مختلفًا عن فلسفة الأخلاق التقليدية.

يقوم الكتاب على التحليل الداخلي للنصوص والانخراط في روح الفيلسوف، من أجل فهمه وشرح مفاهيمه وبسط أطروحاته، على نحو جامع، في كتابات فريدريش فيلهيلم نيتشه. وتتمثّل قيمته البحثية المضافة، أيضًا، في تقديم عملٍ متكامل في مسألةٍ ظلَّ التطرّق إليها باللغة العربية جزئيًّا فحسب.

يُرَدُّ أمرُ القرار الفلسفي النيتشوي القاضي بتدبير الحِيلة الفلسفية لقلب القيم إلى أسباب عدّة، بحسب الكتاب، قد يكون أهمُّها افتتانُه بعظمة عصر النهضة الإيطالية الذي مسخ قيم الأخلاق الكنسية. أمّا ما يستهدفه نيتشه، حقيقةً، من وراء مطلب قلب القيم، فهو استحداث أفق جديد، هو أفق الحياة، أو اشتقاقه من خلال معاينة الراهن.

و"تعني هذه المعاينة نقدًا جذريًّا لعالم ثقافيٍّ أباح هذا الانحطاط"، كما يوضّح المؤلّف، إذ إن "نَقد نيتشه لا يرتكز على الأخلاق السائدة التي شرَّعها بعض الفلاسفة من جهة محتواها، بل إنّ جذرية الممارسة النقدية عنده تبلغ حدَّ خلخلة الأُسس النظرية التي بُنيت عليها تلك الأخلاق ونُظمها. فنيتشه لا يشخِّص علّة تلك النُّظم وثغراتها من خلال مقولات مجرَّدة، من قَبيل الحرية والمنفعة والنزاهة والتجرُّد والنيّة؛ لأنّ حقيقة النقد الذي يستوفي شروطه النظرية كامنة في وضع الأسس الأولى التي بُنيت عليها تلك المقولات موضع استشكال. وسبب ذلك في الواقع، أنها مجرَّد مقولات ترميمية داخل أبنية الأخلاق البشرية. وبناءً على ذلك، تكون جديرة بأنْ توضع موضع استفهام، سواء أتعلَّق ذلك بالحكمة الفلسفية أم بالحكمة الشعبية؛ لأنّنا ما زلنا في كلّ مكان وحيثما لا نعرف بَعدُ التفكير بطريقة سببية، نفكِّر بطريقة أخلاقية".

ويشير الكتاب إلى أن إنّ نيتشه للأخلاق من جهة عمقه والتزامه الإتيقي هو نقد يمسكُ حقيقةً بعَصَب الأخلاق، حيث يُفضي إلى تفنيدها من جهة منبتها النظري. وفضيلة الإتيقا أن تعزِّز في الفعل النقدي عينِه الانشدادَ إلى المبادئ النظرية المؤسِّسة للنُّظم الأخلاقية. ولمَّا كان "نقد الأخلاق يمسُّنا أكثر"، فإنّ السؤال الإتيقي الأنسب هو: مَنْ أنتج هذه الأخلاق؟ مَنْ ذا الذي شرّعها؟ ومَنْ ذا الذي التزم بها؟ وهل أنّ مَن شرّع هو عينه مَن التزم؟ أم إنّ الأمر مغاير لذلك تمامًا؟ لا يتردّد التفكير الفلسفي النيتشوي، بحسب إتيقاه الخاصّة، في "توجيه أعنف نقد له إلى الأخلاق". فما الذي يجعل هذا التفكير أكثر اهتمامًا بالأخلاق؟ أيعود ذلك إلى أنّ الأخلاق هي الملاذ الذي تتحصّن به ثقافة الكذب القيمي لعصر الحداثة وعالَمنا الراهن، أم إلى تلك الشبهة التي حصلت لنيتشه في طفولته؟

ويتساءل المؤلّف: هل يكون العمل الفلسفي لضبط حدود الإتيقا والأخلاق في علاقة بشخصَي الإتيقي والأخلاقي أمرًا آخر غير النقد الإتيقي للأخلاق؟ وهل ثمّة ما يضطلع برسمِ حدود الفرق بينهما إلّا الإتيقا الناقدة؟ ويبيّن المولدي عزديني أنه يمكن القول، على سبيل الاستنتاج، إنّ مثل هذا العمل هو نقد إتيقي للأخلاق. ثمَّ إنّ ما قام به نيتشه من نقدٍ فلسفيٍّ للأخلاق إنّما هو في النهاية عمل النقد الإتيقي للأخلاق.

ويلفت إلى أن الإتيقا عماد الحياة، وهي سندها ضدّ كلّ ما يتهدّدها. وإذا كان جوهر نقد نيتشه للقيم الأخلاقية مراهنة على الحياة، فإنّ نقده للأخلاق نقد إتيقي؛ ذلك أنّ تثمين الحياة نفسه مظهر، أو هو بالأحرى سلوك إتيقي. أمّا الحياة التي تستشعر الضعف في ذاتها، فهي حياة تتوهَّم اختلاق معيار أو سندٍ ترتكز عليه، وما الحياة المتعافية إلا حياة إتيقية لتقوُّمها بالحياتيِّ نفسه. ولربَّما أهم ما كشفت عنه الإتيقا الناقدة بيان الفرق بين القيم الإتيقية وشخوصها، والقيم الأخلاقية وشخوصها، وهو ما يسمِّيه نيتشه "الانتصار على ’الحقيقة‘". فما الحقيقة التي جرت مغالبتها بمفاعيل الإتيقا والنقد الجذري للقيم؟ يجيب نيتشه على النحو الذي يجعل من تأزيم الأخلاق عملًا تتكشَّف من خلاله لاأخلاقية الأخلاق البشرية؛ حيث تبيَّن مآل "الانتصار على ’الحقيقة‘، فإنّ ما تبقَّى هو تفوُّق القيم اللاأخلاقية على الأخلاقيَّات. وللبرهنة: القيم الأخلاقية نفسها ليست ’أخلاقيَّة‘، لا من جهة أصلها. ولا بوسائل القوَّة التي بها تُفْرَض". وهذه هي النتيجة الفلسفية الأوّلية لما اصطلحنا عليه بعمل الإتيقا الناقدة.

ويرى أن انتصار فلسفة القيم النيتشوية عمومًا، هو للحياة والعمل من أجلِ تدبير السبيل إليها، غير أنّ جنسًا مخصوصًا من الحياة المعيشة، وفقًا لإملاءات النقد الفلسفي الجذري، هو الذي خصَّته إتيقا نيتشه بالتبجيل. وهذا ما يفيد تجنُّبه العمل بمعايير المقولات الأخلاقية المجرِّدة للحياة والزاجرة لها؛ إذْ هي مقولات للتنكيلِ بالحياة، وهو ما يتنافى وغرض الإتيقا الناقدة من تطلُّعٍ إلى حياة أعظم وأرحب، حياة سلاحها الفلسفي تثبيت مفعول النقد من أجلِ إسعاد الحياة نفسها، والعمل على تحريرها من لغة - قناع باتت تستغرق مقولات حقوقية مدجِّنة للحياة ونافية لها. لكن "لِمَ علينا دائمًا أن نستعمل تلك الألفاظ عينها الموصومة افتراءً من قديم الزمان؟".

وعلى السؤال: هل يعود ذلك، أساسًا، إلى خصوصية النظر إلى الاستغلال في ما وراء أخلاق الخير والشّر؟ يجيب نيتشه: "لا ينتمي الاستغلال إلى مجتمعٍ فاسدٍ أو غير كاملٍ أو بدائيٍّ، بل ينتمي إلى جوهر الحيِّ، بوصفه وظيفة عضويّة أساسيّة، وهو نتيجة لإرادة القدرة إيّاها التي هي بالذات إرادة الحياة". فإبراز هذا الأمر أو ذاك على أنّه أمر لاأخلاقي هو مِن عمل جينيالوجيا الأخلاق. فما الذي مثَّل دافعًا نيتشويًّا للدفاع عن الحياة من انتهاكات الأخلاق بخيرها وشرّها؟ إنّ القناعة الفلسفية النيتشوية بلزوم التأسيس القيمي للإتيقا هي التي ترى في الأخلاق نوعًا من الزيف بمقاييس الخير والشّر، ولكنّها مشكلة جدِّية وحقيقية بالنسبة إلى الحياة، وفق الكتاب.

وينبّه المؤلّف بأن مردَّ حميّة الأخلاقي للأخلاق، إذًا، هو خدمة الشأن الذاتي المحض بصرف النظر عن صدقيته من منظور الإتيقا الناقدة، فلا يهمُّه، حتى إنْ تعارض مع شأن العموم وحقوقهم. أمَّا حميّة الإتيقا الناقدة للحياة، فمردُّها الحرص على إحلال القيمة الإتيقية محلَّ قيمتَي الخير والشّر وقد أفسدتهما زمرة العبيد. ومن ثَمَّ، قد يجد التعارض بين الأخلاق والحياة أصله في الفرق المهمّ بين وجهة نظر الأخلاق المُهِينة للحياة ببخسها، ووجهة نظر الإتيقا المعظِّمة للحياة بإكرامها.

ويفيد النقد الجذري موضعة القيم والموضوعات المستهدفة عمومًا موضع أزمة، فيطاول النقد الجذور، على أنّ النقد الجذري هو نقدٌ مؤسِّسٌ، ويستهدف فلسفةً للمُقْبِل. ويطاول النقد الأوهام والمُثل والأصنام، وكلُّها حالَّة في أوسع مفهوم لها: القيم، كما يوضّح المؤلّف إذ يتمكَّن النقد من الفكر والحياة والحضارة والأنفس البشرية. وهو جذريٌّ لجرأته على ملامسة الكلِّ؛ ومن ثمَّ إعادة حمل الأسماء الحق على المسمَّيات الحق التي تناظرها. وقد استعمل نيتشه في عام 1888 النقد بوصفه نسفًا للمُثل التي أصَّلها جنس من الفلاسفة يبحث عن الحقيقة. ففي "نقد الأمثلة"، شدَّد على أنّه "ينبغي أن يبدأ بشكلٍ يحذف لفظ ’مثالي‘: نقد الأشياء المرغوبة". ففي أيّ المواطن يوجد جُماع هذه المُثل؟

ويتجسّد استشكال النقد الجذري، بحسب المؤلّف، في المُساءلات التالية: هل من البدهي أنّ الحداثة الفلسفية قادرة على تقديرٍ حقيقي لقيم الأشياء والأفكار والحياة والفنون وحرمة العقل وضوابط الكلم البشري؟ هل يُعدّ القول إنّ اللغة الفلسفية متحرِّرة ومتعافية وطليقة اليد من جهة ما تتّخذه من مواقف قولًا صحيحًا؟ ومتى تقتدر على تشريعٍ للقيم ليكون شرعةً إتيقية لفكرٍ فلسفيٍّ مُقبِلٍ؟ ومَنْ ذَا الذي يقوى على تثمين النقد والاعتراف به عُدَّة سالبة للأوثان وقدسياتها؟ ومن ثَمَّ، هل يمكن القول إنّه لكي "يكون النقد نقدًا حقيقيًّا في معناه"، لزم "أن يتَّجه إلى القيمة"؟ بل هل تبقَّى لنا في نظام القيم الفلسفية نفسها ما به يَفضُل عصر الحداثة ما سواه من العصور الخوالي؟ وما قيمة الحياة والعقل والفكر؟ ومَنْ ذَا الذي يتفرّد، اليوم، بمطلق الحق في إسناد معاني القيم، وتحميل صورها ما لا تحتمله بطبائعها؟ أليست العقلانية الممجَّدة في عصرنا هي سند طواغيت الفكر العقلاني، كالأنا والذات المفكِّرة والسيادة على الذات؟







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي