محمد عزيز الحصيني: قصيدة النثر غوص في الفيزيقا السفلى للغة!

متابعات - الأمة برس
2023-04-08

حاوره: عبد اللطيف الوراري

محمد عزيز الحصيني، شاعر وكاتب ومترجم مغربي. ولد في الرباط عام 1957، ومن البرج على سطوتها الأطلسية استلهم أولى كلمات الشعر، ومن انتظام الأمواج تَشرّب الإيقاع كما صنع الإنسان الهيلليني في زمن سحيق، قبل أن يجلس «في الجرف الأبعد لينحت في الصخر فسيفساءه المنضَّدة من نُوى الكلمات». مُقلّ، خيميائي ومتهيب كفنار على مفاجآت الزرقة. ينتمي إلى جيل الثمانينيات الذي أرسى معالم حداثة جديدة ذات مفاهيم ومرجعيات كتابية مغايرة لما سبقها، وانحاز إلى قصيدة النثر وعيا وموقفا. خلص صوته الفردي مبكرا من هتافات الأيديولوجيا، وكتب قصيدة القناع في مرحلة استلهام التراث، إلا أنه وجد في قصيدة النثر هويته الشعرية. يتميز شعره ببساطة الجملة واستثمار السرد ودمج اللغة في شبكة معجمية وتخييلية نزّاعة باستمرار إلى غرائبية رؤيوية تشي بملامح « كتابة الصمت». من أعماله الشعرية: «كيف تأتي المنافي؟» (1980) «الكلب الأندلسي» (2000) «أثر الصباح على الرخام» (2010).

كيف جاء محمد عزيز الحصيني إلى الشعر، وعقد عليه زمام كينونته؟

لم أجئ إلى الشعر، بل الشعر هو الذي كان كامنا متربصا بإيقاظ حاستي السادسة. في قماط الشعر كانت صرختي الأولى، وأنا أتنسم هواء حريته المطلقة. عَنى لي الشعر الشيءَ الكثير بأحلام أقل. قناديل مطفأة في الريح، وفنار على خاصرة البحر. هناك، كان «البرج» يتصادى مع أجراف الحنين المحملة بين صخور المحيط بخزّها اللامرئي، وبروقها المنسلة في حلكة لانهائية. تلك علتي الأولى. في الرباط العنقاء، مسقط رأسي ووجداني، كان للطفولة مذاق حرّيف، ولثغة موتّرة بين قوس رامٍ أعمى، وتسديدٍ صائب. وكنت نقطة الهدف. أصابني الشعر في مقتل. تلقفت أولى ضربات أجنحته النارية في الصدر تماما، جهة الصرخة الأولى. كان النداء صاخبا محتدما كما لو في إحدى لوحات المجنون دادْ: «تعال إلى هذه الرمال الصفراء». ارتميت. تحولت الكثبان إلى زوارق شراعية، وكان القفير. لسعني قرص العسل، ولم أصحُ حتى الآن، وأنا في عقدي السادس، من خدر ووطأة لذة عجيبة. فاكهة محرمة؟ بالتأكيد! طفل يولد موشوما بـ»حنين المفارقات». أقامت القصيدة «في الجهة النبيلة من جبهتي» وكان المآل: شلال زئبق على رأسي، وتحت قدميَّ أصداف ولؤلؤ. أما المحار، فصدى للهاويات.

صار من الدارج أن جيل الثمانينيات الذي تمثل أحد شعرائه الأساسيين، حقق طفرة أساسية في سياق تحديث الشعر المغربي. في نظرك، ماهي أهم المكاسب والآثار التي تنسب له، والتي ما زالت تفعل فعلها المؤسس؟ وما هي مرجعيات الكتابة التي استلهم منها سبل إبداعه الجديد؟

لا تروقني كليشيه «الجيل» كتصنيف عقدي. أُوثر مفهوم «الحساسية» وقد درستَه ونظرتَ له بعمق أخي عبد اللطيف في أبحاثك ونقودك. على الخطاب حول الشعر أن يتغير. أنت تعلم أن الشعر أراض ما فتئت تغير أسمدتها وتتحول باستمرار. يُفرز خصوصياته وأسئلته المركبة والحارقة، في سيروراته المحتقنة داخل زمن الكتابة. في رأيي، تتداخل في شعر الثمانينيات تجارب ورؤى مختلفة ومتنوعة قوامها التعدد الخصيب والثراء الكمي والنوعي، إضافة إلى تجاذب الجماليات والرؤى، والمعجم، والبناء النصي، مما أصبح يفرض على قراءته البحث الحثيث عن جوهر الشعر المتضمن لأسئلة الكتابة. من هنا، أرى أن خريطة الشعر المغربي لصيقة بخطوط طوله وعرضه، اختلافه وتعدده في سيروراته المتحولة، تطغى فيه قصيدة النثر، وهي قصيدة مطبوعة بجماليات شعرية جديدة وترصيع للقول الشعري ببساطة الجملة، والانفتاح على إمكانات السرد وتشبيك اللغة في علائقها المعجمية والتخييلية، مع النزوع إلى غرائبية رؤيوية تشي بملامح «كتابة الصمت» أكثر من الصخب البراني الذي كان مهيمنا على القصيدة من قبل. الشعر المغربي الراهن مطبوع بجماليات جديدة، وآفاق كتابة خارجة عن «إبيستيمي» التخييل. شعر ذوات شعرية غير متجانسة في رؤيتها للكتابة، بحكم تنوع مصادرها النصية ومتخيلها الكتابي. ربما هذه بعض مكاسب الحساسية الشعرية التي أنتمي إليها. أسئلة، مرجعيات متباينة، مع استراتيجيات انزياحية تعتمد اللعب لغة وبلاغة. الحساسية الشعرية للثمانينيات أزاحت عقدة الخوف من الميثاق الشعري، وراهنت، من بين ما راهنت عليه، على أن الشعر يتموضع «خارج العقد الذي يربط المبدع بالمجتمع» كما يقول بارت.

أصدرت باكورتك الشعرية «كيف تأتي المنافي؟» سنة 1980. كيف تستعيد تلك اللحظة وحماس الشاب الذي في الثالثة والعشرين وصورته البوهيمية؟

من وجهة نظر جمالية: كنت شاعرا بوهيميا بحق، طريّ العود، بلحية صغيرة وجسد نحيل، تحدوني رغبة جامحة للمغامرة في الشعر والحياة. صحيح، لم يكن لباسي من «البوهو» لكنني كنت شابا أنيقا. أصدرت «كيف تأتي المنافي؟» على نفقتي الخاصة، مؤشر أول على يتم الشاعر. شواغلي كانت «القصيدة القناع» و»استلهام التراث» وقصيدة نثر تبحث عن مرفأ. كانت أحوال الطقس الاجتماعية مروعة، وبدا صوت الشاعر خافتا غير مسموع. لم أكن أستطيع التمييز بين أن يكون الشعر متنفسا وجوديا، وصوت ارتطامه على صخرة الإيديولوجيا. ارتسمت التجاعيد على وجه القصيدة، ولم تُجْدِ مساحيق «القصيدة القناع» في جعل الرتوشات مسموحا بها، الجملة الشعرية الطويلة، والبناء الأوقيانوسي: تلك كانت شصوصي في بحر الشعر اللجي. أما الآن، فأنا أكتب قصيدتي، و»أدندن بأمطار بعيدة. شاردا، أترك الوقت يمرق بين أصابعي».

من خلال مجموع أعمالك الشعرية التي انتظمت في الصدور؛ مثل «الكلب الأندلسي» و»أثر الصباح على الرخام» انتصرت لقصيدة النثر مبكّراً، وكنت من المتحمّسين للكتابة بها. هل ما زالت قصيدة النثر لسان حال الغائبين في التاريخ؟ إلى أيّ مدى باتت القصيدة تحتفظ بذلك الوهج الذي كان لها في البدايات الطليعية؟

قصيدة النثر هويتي كشاعر. كتبتها بتفان وصبر وتؤدة. قصيدة النثر صعبة المراس، عكس ما يظنه البعض. إنها غوص في الفيزيقا السفلى للغة. تجسيد ملموس «لأفقية اللغة وعمودية الأسلوب» كما يقول بارت. هي ليست ترصيعا تزيينيا للنثر. أراها تنهل من حشوية الصور البهيمية للغة، ومن حذاقة الشاعر الذي يبتكرها بأصالة فعلية، دون تحذلق أو مجانية. بعد صدور ديواني الأول، استدعيت للقاء شعري من تنظيم اتحاد كتاب المغرب في الرباط. المفاجأة: لم يحضر اللقاء سوى نزر قليل من الأصدقاء. ارتعبت. قلت مع نفسي: لأصعد السفينة مع نفر من جيل الثمانينيات. ولما أوشكت السفينة على الغرق، لم نتشبث بالقبطان السبعيني في قمرته. ارتمينا في البحر، كل منا يمسك بفلينته. هل بلغنا البر الآمن؟ من جهتي، أجيب بما قاله توماس ترانسترومر: «شطآني منخفضة، لو ارتفع الموت عشرين سنتمترا لغرقت».

انتبهت من البدايات إلى قيمة البعد الجمالي بدل الأيديولوجي الذي كان يسلب الشاعر صوته الفردي، في بناء ممارستك الشعرية. وضمن هذا البعد احتفاؤك بالتجريب في جماليات الكتابة، وبالمكون السيرذاتي في صميمها. كيف تنظر إلى كتابة ما هو ذاتي وشخصي في سياق الشعر؟ ماذا يبقى من سيرتك الذاتية، وما الذي يُضاف إليها؟

بقوة الأشياء، وبفعل الضرورة القصوى، تكتنف القصيدةَ ظلال ومنجَّدات سيرية، هي بمثابة الأورغانون اللاواعي في تجربة الشاعر. اللغة الشعرية، في أذكى حالاتها، هي ترجيع لما تختزنه الذاكرة. في القصيدة، الأنا آخر، والذات هي الذاكرة، أزمنة وأمكنة وشخوص، بقدر ما نبتعد عنها، بقدر ما تحوطنا الحاجة الملحاح إلى ملء ثقوب هذه الذاكرة. الحنين، والروائح، والروابط اللامرئية بين الأشياء… هي ما يجعل الوجود متوازنا ومحتملا. لذا فأنا أرتمي في القصيدة: سلاحي لغتي، وذاكرتي الحياتية والثقافية. سيرتنا الذاتية تتشذَّر عبر الزمن الفيزيائي والنفسي، والشاعر، حين يستحضر سيرته الذاتية أثناء الكتابة، يُحاصَر بالفشل، لأن السيرة مكوِّن أساس في كل ما يكتبه. ودون تصريح، تتسرب الشظايا وشذرات الطفولة كما نفحات العذاب وأقدار المعاناة والفرح، لتكوِّن سيرة ناقصة تستكملها تفاصيل الكتابة. إننا نكتب أشياء، وتفوتنا أشياء، لكن للاوعي ضربته الحاسمة. خارج التعاقد السيري، والبحث عن عناصر الإقناع، وعن الأثر المرجعي في كتابة السيرة الذاتية، يتسرب صوت الشاعر كشبح ينظم الحلكة، ويدبر شؤون عتمة النص. الذات مرآة عائدة، وهي منسربة في لغة الشاعر، أمرٌ بدهي، لكن الممحاة ضرورة، أما غنيمة المعنى، فالتأويل هو الدليل إليها. ماذا يبقى من سيرتي الذاتية؟ – السديم.

إذا لم تكن القصيدة تجسيدا للبعد الجمالي فهي لا شيء. كل قصيدة هي ورشة تجريب لانهائي. يجلس الشاعر في الجرف الأبعد، لينحت في الصخر فسيفساءه المنضَّدة من نُوى الكلمات. هل يملك قبعة سحرية لإطلاق الحمائم إلى بحرها اللازوردي؟ هل يستطيع القفز، بقدم متورمة، إلى أعالي الأولمب؟ هل يبحث عن زهرة الزوال بدل نبتة الخلود؟ القصيدة أقنوم جمالي، مِحكّه التجربة والتجريب الإيجابي الخلاق.

ما هي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة، وهل تعود إلى تنقيح ما تكتبه؟

سأكون كاذبا إن قلت لك: طقوسي: حيثما تداهمني الرغبة في مراودة الصمت. دليلي: استغمايةٌ بجناحيْ إيكار. التحليق الحر بقدمين لصيقتين بأديم الأرض مخافة مدار الشمس وأشعته الحارقة. في زوادتي شمع كثير حتى لا يسقط جناحاي ويتناثرا في أتون اللغة. قد تشاكسني القصيدة على بعد مسافة بين مقهاي وبيتي. ثم أجنح إلى العزلة، العزلة الضاربة في صخب المجازات والصور التي تغلي داخلي. أكتب على الورقة، ثم على الحاسوب. في مكتبتي، حيث تتصادى أرواح الكتب ورائحة الأوراق، بين النافذة وباب الغرفة، تصير المسافة أقرب: نقاط وفواصل وعلامات ترقيم غير لازمة، وصفٌّ من العصافير الحمقى. أكتب، وأشطب، وأحذف، كإسكافي يروم إتقان «غرزته» بالإشفى. أليست الكتابة صنعة؟ أدواتي: كولاج، وتقطيع، وتضمين. ثم أوزع أعواد الثقاب على الصفحة. أنتظر اشتعالها، لتتولد الشعلة البؤرة. تشرع الجمل في إرسال ذبذباتها اللاذعة، تنبت قرون استشعار، وتمد رؤوسها الألف. هنا، تحت رقعة الورقة، أسترجع أنفاسي، حيث «الإبر والنبال». عليَّ، حينئذ، أن أتوثب في انتظار «كلاب الصيد الفضية» وهي تقود المعنى إلى مضمار الغنائم. أحيانا، تكون الجملة الشعرية وليدة الصدفة، أو عراكا شرسا بإحساس ساهم ومشوش، حيث اللغة سيدة المجاز ومناخس البلاغة البيضاء.

بإيجاز، لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟

لعله السحر! كيمياء المادة وكل ما يخفى سببه. خيمياء الإيهام. منذ طفولتي وأنا أحلم بأن أصير ساحرا. لطالما استهوتني مغامرات وأسرار السحر، خفايا المادة وتجلياتها المدهشة. رغبة مكبوتة استعادها الشعر أخيرا. أكتب لأرى العالم بالمقلوب. أكتب لأصحو من كابوس جاثم. الكتابة، عندي، إبحار في «ليل المعنى» بحث عن رسوِّ على نقطة اللاثبات. ومثل عدسة التصوير الأوتوماتيكية، أنقل العالم بالمقلوب إلى الغرفة المظلمة. ثم يتسرب الضوء، وتنزاح كثافة اللامرئي، ليتقدم العالم عاريا من أجل «عري كل شيء».

لمن أكتب؟ هوذا السؤال المحير اللذيذ: أكتب للقارئ الذي يغمز لي في نهاية السطر شامتا، وضاحكا من بلاهتي وسط متلاشيات القصيدة. أكتب لـ»آخر» هو ضِعْفي الممكن!








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي