ضد مجهول

2023-07-16

جميلة عمايرة

بعد تردد طويل وخجول، أقفل الشتاء بابه الواسع، وحسم الأمر لصالح الربيع. أطل بوجهه الأخضر المشرق، بأزهاره ووروده، بنباتاته المتفتحة بمختلف الألوان والروائح، بفراشاته الملونة، بدت الأرض بساطا أخضر لا يحده النظر. أعدت المرأة حديقة بيتها باكرا، لتكون في أجمل حلة خضراء، بعد أن استعانت بعامل للحدائق المنزلية. تمت زراعة العديد من النباتات والأزهار الجديدة، بأنواع مختلفة. قلمت أغصان أشجار الحور، الأكاسيا، الجوري والمجنونة، وغيرها من الأشجار التي تسور الحديقة من جهاتها الأربع. انتظرت الوقت المناسب، للجلوس والاستمتاع بالربيع، بعد رحيل فصل شتائي بارد وطويل.

٭ ٭ ٭

هذا الصباح نهضت مبكرة. أحست بالنشاط والحيوية. ألقت كل مهامها الأخرى وراء ظهرها، حضرت قهوتها، وتناولت الرواية التي بدأت في قراءتها منذ أسبوع أو أكثر أو أقل، لا تتذكر على وجه الدقة. هذا الصباح ثمة تصميم على قراءتها وإكمالها قبل حلول المساء، رغم صعوبة مسار أحداثها، وتحركات بطلها غير المتوقعة والتي تفاجئها في أكثر من مشهد. أحضرت كرسي الحديقة الدوار، جلست محاطة بمختلف الأزهار المتفتحة، ونباتاتها الملونة، وروائحها العبقة. صار البيت وراءها، وراء ظهرها، وأمام ناظريها بساط أخضر ملون لا يحد. بدأت تقرأ بتركيز.

٭ ٭ ٭

تقرأ.. تقرأ بشغف

تتوقف حينا أمام الصفحات، تعيد قراءة ما سبقها أكثر من مرة، في محاولة منها لتتبع تحركات البطل بعناية فائقة، وربطها مع الإحداث وتحليلها، لفهم نفسية الشخوص، خاصة البطل بصورة دقيقة. وحينا آخر تتوقف عن متابعة القراءة قليلا، قليلا فقط، تحتسي قهوتها بهدوء، وتدخن سيجارة، تتأمل حديقتها، وتعود ثانية من جديد لمتابعة القراءة. فجأة انتابتها هواجس، تجاه بطل الرواية. تجاهلت الأمر وتابعت القراءة.

تسير الأحداث بهدوء، وفجأة يحدث ما لم يكن متوقعا، من أفعال بشعة، وسلوكيات سيئة، يقترفها البطل وحده بكل خفة ودهاء، هكذا بلا سبب واضح أو مقنع. بعد أن يعلق قلب حبيبته، أكثر من مرة فعلها مع فتيات أخريات، وهو يقسم على الوفاء، يمضي بلا وداع ولأسباب غامضة. يعود من غيابه الطويل، ويذهب للبحث عنها. وحين يجدها وقد رحلت بعيدا بعد زواجها مثلا، أو لسبب آخر، يذهب لمقر عملها. وهناك يكمن لها في محل ما أو مكان يختاره بعناية، يكمن متخفيا، وعند خروجها، ينتهز الفرصة الملائمة، ويقوم بقتلها بخفة متناهية، ودون إراقة نقطة دم واحدة، وسريعا ما يختفي بين جموع المارة والعابرين بلا أثر.

لا يوضح الكاتب، سبق وأن أوضحت هذا، لا يوضح أو يفسر الأسباب التي دفعت البطل لقتلها، ولو حدث وكانت هناك أسباب، هل ثمة ما يستدعي القتل؟ أعادت قراءة المشهد أكثر من مرة، ربطته بالصفحات التي سبقته، والصفحات التي تليه، في محاولة لفهم الأسباب، دون العثور على سبب خفي أو معلن. ولكن هل قتلها حقا؟ أم هي واحدة من تخيلات الكاتب؟ لا تدرك المرأة ما الذي حدث أو كيفية حدوثه، لا تدرك ما الذي سيحدث في الدقائق القليلة المقبلة، رغم أن الكلمات دخلت رأسها واستقرت هناك. شعرت بأن الكلمات هي كلماتها، بل تخرج من أعماقها. من يدري فقد تطير هي، أو قد يطير رأسها بشعرها الطويل، كفراشة حديقة ملونة، ويتقافز تحت سماء ربيعية بلون أحلامها. أو يحدث الأمر هكذا لأسباب أخرى، لا علاقة لها بالرواية وبطلها. لا أحد باستطاعته التنبؤ بالنهاية. الأمر برمته متروك للصدفة، أو الحظ السيئ، أو التوقيت الخاطئ، أو يعود لمخيلة منفلتة من عقالها لكاتب لا يكترث لشيء.

٭ ٭ ٭

ثانية توجست خيفة فارتعشت أوصالها. انتبهت لانزياح ظلال الأشجار عن مكانها، واهتزاز أغصانها بقوة، كأنما ريح خفية وملولة هبت فجأة. سقطت الرواية من بين يديها. ما الذي يحدث؟ طلقة واحدة نحو الرأس من كاتم للصوت، كفيلة بأن ينفصل عن الجسد بسهولة متناهية. قال عابرون بأنهم رأوا رأسا آدميا، يهوي من علو، يسقط في الشارع المقابل مثل كرة قدم. شاهد أقسم بأنه رأى بأم عينيه رأسا متطايرا بشعر طويل، لا بد أنه يعود لامرأة، يتقافز فوق رؤوس المارة، والسيارات العابرة بسرعة الريح. أكد شاهد عيان آخر: في بداية الأمر ظننت أنها طائر ورقية، مزينة بخصلات شعر – يفعلها الأطفال – لكنني حينما تتبعت المسألة، تيقنت أنه رأس آدمي يعود لامرأة. وبسبب ازدحام السيارات والمارة، لم أتمكن من متابعته بسهولة. لا أعرف أين انتهى به المطاف. ربما يعود الأمر في جوهرة، إلى أنني كنت أتمنى أن يكون المشهد أقل بشاعة، لذا لم أتمكن من مواصلة الرؤية. حقا لا أعرف ما الذي حدث، وكيف حدث وأن هناك رأسا آدميا متطايرا في الفضاء، ولماذا، بل أعترف هنا، بأنني بت لا أعرف، إن كان ما رأيته حقيقة، أم هو من بنات الخيال، إذ بدأت طيور الشك تغزو رأسي مؤخرا.

كاتبة أردنية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي