عصي على النسيان

2023-07-27

نسب أديب حسين

قلّب الكتاب بين يديه، نظر إليّ مبتسما وسألني: «أنا حقا مستغرب لماذا احتجت كلّ هذه السنوات كي تأتي عندنا؟ موقع بيتنا معروف، في الخارج حجر شاهد يشير إلى الموقع الذي جلس فيه محمد واختطفوه منه، كان ذلك في رمضان، جلس في مدخل البيت ليمضي لصلاة الفجر في المسجد القريب مقابل البيت».

أجبتُ: «نعم أعرف جيدا موقع اختطافه، وأنّ بيتكم أحد البيوت القريبة من الشارع، لكنّي سأعترف لك، كانت بي رهبة وحاجز يمنعانني من الحضور، لم أعرف ماذا يمكن أن أقول لكما؟ كيف سيمكنني أن أعزيّكما، حتّى بعد أن نشرت «أسرار أبقتها القدس معي» وكتبت عن الحادثة شعرتُ بأنّ هذا لا يكفي، وفي كلّ عام وقت الذكرى أقول لنفسي يجب أن آتي، لكني في اللحظة الأخيرة أتراجع. حتّى رأيت يوم أمس صورة حزن وهلع أم إياد الحلاق، وتخيلتُ كم ستحتاج هذه المرأة وأهل الشهداء عموما للمؤازرة، وعلمت أنكم ستقيمون الذكرى السنوية التاسعة لاستشهاد محمد، فأتيت لتعلم أنت وأمه أنّني كتبت ونشرتُ، وقرأت ما كتبته عن محمد في هذا الكتاب في أكثر من عشر ندوات في أنحاء فلسطين، فقلبي معكما، وأنا متأكدة أنّ الكثيرين قلوبهم معكما وإن كنتما لا تعرفونهم».

أبتسم لابتسامته هو وزوجته الشاكرة والسعيدة لحضوري، كان اختطاف وحرق الطفل محمد أبو خضير في تموز/يوليو 2014 من أكثر القضايا التي هزّتني، خصوصا أنّ أول مكان سكنته في القدس عام 2006 كان في دير راهبات في شعفاط قريبا من بيت محمد، قبل انتقالي وقتها إلى سكن الجامعة. بعد الحادثة تخيلت محمدا طفلا صغيرا يمرّ قربي، وأنا أسعى إلى الجامعة، وربما هو يسعى إلى المدرسة، ومن يدري ربّما التقينا في الدكان الذي كنت أتسوق منه مقابل بيته، دون أن أعرفه ولربّما ظننته سيكبر ويحيا بشكل طبيعي، حتى ظهر الخاطفون بجريمتهم، فكتبت وجعي عليه تحت عنوان «محمد كان جاري» وكان جزءا من صرختي في الحديث عن القدس لسنوات.

في الطريق من القدس إلى الجليل، يرنُ هاتفي معلنا عن وصول رسالة إلى البريد الإكتروني، يظهر عنوان المُرسل «جوليا بلاك بورن» وعنوان الرسالة «هذه الأيام الحزينة». قبل أسبوعين كنتُ في مسافة عن هنا، هناك معها في لندن، في آخر أيام ورشة كتابية ختَمتْها بإلقاء قصيدة لي، وأكّدت قبل أن نفترق: «يجب على رسالتك أن تصل شعبي هنا» وأنا أهزّ رأسي موافقة، وأفكر ماذا بوسعي أن أفعل؟ أسترجع يومياتي هناك وعودتي لدوامة حياتي هنا، هل سأستطيع أن أكتب لها عن اللقاء الذي كان قبل قليل، عن مقاومتي لحاجتي للبكاء بعد لقاء والديِّ محمد، وأقارن كلّ هذا بالهدوء الذي كان يداخلني هناك؟ كأنّني في قفزة بين زمنين، خصوصا بعد الأسبوع الصاخب. تُرى هل وصلت الرواية الفلسطينية حول مخيم جنين إلى لندن؟ أم فقط رواية الاحتلال من البحث عن المخربين؟ هل سمعوا عن العائلات التي شُردت من بيوتها؟ عن هلع النساء والأطفال؟ عن تدمير أكثر من 300 بيت في المخيم وتدمير الشوارع؟ وسرقة حصالات الأطفال؟ وعن قضية إياد الحلاق التي أغلقت أمس؟ هل سأستطيع أن أكتب للكاتبة البريطانية عن هذا؟ تعاودني كلمات والديّ الشهيد، وأشعر بقلبي يتفتت، حاولتُ أن أكون قوية أمامهما، ورأيتُ محاولتهما كذلك، ونحن نحتجز الدموع.

قالا لي: «هل تعلمين كم من الصعب علينا إحياء الذكرى السنوية؟ لكنّنا نقيمها لكي تبقى ذكرى محمد ويتذكر الجميع أنّ ابننا اختُطف وحُرق حيا.. طبيبهم أثبت بعد التشريح أنّه كان حيا، ليسوا هم فقط من يحيون ذكرى المحرقة». استطرد والد محمد: «وفوق هذا جاءنا وقتها ما لا يُعد من المحامين، يطالبون بأتعاب، ويدّعون أنّهم سيحققون لي مبالغ تعويض هائلة، ليس هذا فقط، بل إنّ جمعية صهيونية عرضت عليّ شيكا مفتوحا، لأحصل على أيّ مبلغ أريده مقابل ألا أرفع القضية، لكنّي رفضت، هل يعتقد أحد أنّ هناك مالا في الدنيا سيعوّضني عن ابني؟ حاولوا أن يُذهبوا الأدلة ولم يُظهروا تسجيلات كاميرات سكة القطار الخفيف الممتدة على طول الشارع مقابل البيت، كان الحظ إلى جانبنا بوضعي لكاميرا خاصّة على الشارع، ورأيتُ المستوطنين الثلاثة عبر التسجيل وهم يخطفونه، اختُطف بعد دقيقتين من خروجه من المنزل كان وحده لأنّ الدنيا الفجر، وأراد الذهاب للصلاة، وكانوا يذرعون الطريق جيئة وذهابا يبحثون عن طفل لاختطافه حسبما اعترفوا لاحقا، حتّى وجدوا محمد. وقف الإعلام الى جانبنا، جاء مراسل قناة إسرائيلية وبثّ فيديو اختطاف محمد الذي صورتُه عبر هاتفي من تسجيل الكاميرا خاصتي، ونشر الفيديو مباشرة، ونشرته قنوات كثيرة، وهكذا لم يعد من مجال للتكذيب، فألقت شرطتهم القبض على المستوطنين الثلاثة. وبالطبع ادّعى القتلة أنّ لديهم أمراضا نفسية لينجوا من العقاب، وبعد 38 جلسة محكمة، امتدت ثلاث سنوات، كلّ جلسة مدتها 8 ساعات، برفقة المحامي مهند جبارة، الذي رافقنا دون أتعاب، تمّت إدانتهم فحُكم أكبرهما بالمؤبد، والأصغر بـ21 عاما، هل تتخيّلين أيّ إرهاق تكبدناه، حتّى صدر الحكم». قلتُ عسى أن يكون في الحكم ثمّة ما يمنح بعض العزاء بعد هذا التعب، بأنّ نتيجة تحصّلت بإدانة المجرمين، أمّا حال أهل الشهيد إياد الحلاق وتبرئة قاتل ابنهم يوم أمس، فهم لا يُحسدون عليه.

قالت أم محمد: «كان الله في عون أم إياد، قضت عمرها في رعاية ابنها المصاب بالتوحد، وفي النهاية قُتل بدم بارد وهو في طريقه صباحا إلى المدرسة، وها هم يبرؤون القاتل، لا بدّ أنّها ستُجن بعد هذا القرار، هل تعلمين أنّه بعد سنوات أرسل المستوطن الأكبر سنا بين قتلة ابني يطلب مني أن أسامحه، فقلتُ: سأسامح بشرط واحد، سُئلت ما هو؟ كان جوابي: أن يعيد لي محمد».

قال أبو محمد: «تخيّلي لو أنّ الحادثة بالعكس وفلسطيني قتل إسرائيليا مُصابا بالتوحد، لعرف العالم كلّه بالقصة، ولقامت القيامة فوق رؤوسنا، أمّا في حالتنا فلا إدانة، وإن تمت فتُفحص إمكانية أن نسامح».

«الشعور بالظُلم صعب» عبارة قالتها صديقتي دعاء يوم أمس، ونحن نتابع نتيجة محكمة إياد. نعم الشعور صعب، لكنّنا لا نستطيع أن نتوقع العدل من محتلنا خصوصا في هذه المرحلة مع اليمين المتطرف، نحتاج ألا نجن وألا نرحل وألا ننسى..

نحتاج أن نصمد

كيف يمكن أن يحصل هذا؟

أستذكر نهاية زيارتي التفقدية الأسبوعية لحال القدس القديمة أمس، وتقاطعي مع أربعة أطفالٍ يمسكون أكفّ بعضهم ويركضون في طريق السلطان سليمان قرب سور القدس، صوت ضحكاتهم يملأ الجو وروحي، كذلك كانت ابتسامة والدي الشهيد اليوم وأنا أصافحهما قبل مغادرتي منزلهما، والنداءات والدعوات لإعادة إعمار مخيم جنين، نحتاج أن نمسك أكف بعضنا أكثر. أتأمل كلّ ما كتبته هنا، هكذا إذا قد كتبت صوتي وردّي إلى الكاتبة العزيزة جوليا دون أن أقصد، سيكون حصى ألقيها في بئر الذاكرة، عسّى يوما يحلّ ويرتوي العالم من ماء بئرنا لينجلي عنه ما أعمى بصيرته، ومن يدري ربّما يمدّ أكفه كذلك نحو أكفّنا.

كاتبة فلسطينية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي