في كتاب «مظفر النواب.. رحلة البنفسج»: صورة الشاعر في الذاكرة العربية

2023-11-12

كاظم غيلان

بقدر ما ظلت قصائد مظفر النواب تعاني الحظر الرسمي عراقيا وعربيا، حتى وصف بـ(شاعر القصيدة المهربة) ظلت الدراسات التي تناولت تجربته الاستثنائية شحيحة لم تبلغ الإنصاف النقدي الثقافي حتى رحيله .

في الزمان العراقي نعرف جدا كيف ارتفعت قصائد مظفر النواب لمصاف الأحكام الجنائية، حيث زج بالعديد من متعاطي أشعاره في غياهب سجون العراق، ولربما تجاوز الأمر لبعض بلدان عربية أخرى، فكم كان عارفا بما حصل ويحصل يوم صرخ في قصيدة يصف فيها الوطن العربي بـ(سجون متلاصقة… سجان يمسك سجان).

قصائده تفتح ثغرات حادة شجاعة في أسوار تلك السجون لتتنقل بين أيدي الباحثين عن الحقيقة، لأن شاعرها وعلى حد قول عبد الواحد لؤلؤة (شاعر الصراحة الفذ).

ورغم ما حملت معظم الدراسات الصادرة عنه من نوايا طيبة، إلا أنها لم تبلغ رضاه إلى حد رحيله الجسدي في مايو/أيار 2022، فبقدر ما أعطى من تضحية إلا انه لم يحظ إلا بالقليل مما يستحق، ولعل أبرز من أحاط بتلك التجربة الصاخبة هما باقر ياسين في كتابه «مظفر النواب.. حياته وشعره» وحسين الهنداوي «مظفر النواب.. في أعالي الشجن» .اليوم يصطف إلى جانبيهما الكاتب عبد الحسين شعبان في إصداره الحديث «مظفر النواب.. رحلة البنفسج» الصادر عن دار النهار ـ بيروت ولعله اول كتاب صدر بعد غياب النواب .

الإصدارات الثلاثة أحاطت كثيرا بمتني تجربة النواب الشعرية والحياتية التي تعرضت لتقولات واجتهادات غير خالية من التشوهات، تفتقر لمصداقية مصادرها تجاه شاعر دائم الترحال، المنافي كانت له وطنا، أما وطنه الأصلي (العراق) فلم يحصل منه إلا على أحكام السجن القاسية كان أبرزها سجن (نقرة السلمان) المنفى الصحراوي الشهير في أقصى بادية (السماوة) وسجن (الحلة) الذي شهد عملية كان الشاعر أبرز منفذيها، إذ حفر مع رفاقه نفقا وتخلصوا من السجن إلى فضاءات أرياف العراق. كل ذلك بسبب انتمائه المبكر للحزب الشيوعي العراقي. إلا أن صوته الغاضب كان يجتاز كل الأسوار العالية والأسلاك التي تحيط بتلك السجون إذ قال عنها:

عضني سجن العراق

فما استطاع..

وحاولتني كل ريح أن أجاري

يكتسب مؤلف شعبان هذا أهميته من خلال سبره لأغوار فنية ـ حياتية لم يكن القارئ لتجربة النواب قد عرف بها من قبل. يستهلها في الصفحات الأولى من الكتاب في المقاربة بين صورة النواب في الذاكرة الجمعية العراقية والعربية من صورة برومثيوس في الميثولوجيا الأغريقية، الذي انحاز إلى البشر حاملا شعلة النار الإلهية. بدأ النواب تجربته الشعرية من خلال قصائده المكتوبة باللهجة العامية ـ المحكية العراقية التي تهيمن المحدودية على معظم مفرداتها، رغم اشتقاقاتها من إرث حضاري معروف ألا وهو الحضارة السومرية، التي لم يزل سكان الجنوب العراقي يتعاطونها في تعاملاتهم اليومية، ولعل النواب في شعر العامية تلك أحدث انعطافة حادة وصفت بالخلق الشعري، حيث تأسس خطاب حداثوي غير مألوف، متخلصا من وتيرة التقليد الرتيب الذي أشاعته القصائد العامية العراقية القديمة، فجاء بكل ما هو مدهش وغير مألوف منذ قصيدته الشائعة التي أصبحت من أشهر الأغاني العراقية (للريل وحمد) ، هذه القصيدة كتبها مظفر في الأعوام 1956 ـ 1959 التي سرعان ما سارع لنشرها علي الشوك، وراح الشاعر سعدي يوسف يضع جبينه على عتباتها.. وأردفها النواب بقصائد عديدة أخرى حتى صدرت مجموعته الشعرية العامية التي حملت العنوان ذات .

بعيد مغادرته القسرية للعراق عام 1969 نحا مظفر منحى آخر في الكتابة باللغة الفصحى ليحاكي الشعوب العربية بوصفه شاعرا ومناضلا أمميا، إذ نشر أولى كتاباته عند أول محطات المنفى ـ بيروت 1969 فكانت قصيدته «قراءة في دفتر المطر» التي ثبتها المؤلف في ملحق كتابه فضلا عن قصيدة أخرى كتبت بعدها «المنفى كالحب» التي حملت بواكير الشعور بأسى المنفى والخيبة السياسية:

« يا وطني أين أنام؟

قطع نومي أقنعة لوجوه الأعداء

فأين أنام؟

بليت بأعداء يحتكون بأنفي

في النوم جسورين

أعداء اليقظة جاؤوا

يمشون على أيديهم مكسورين

أشفقت عليهم كالطين:

شتموني

المكسورون يجيدون الشتم

المقلوبون يرون العالم بالمقلوب»

لعل البزوغ الشعبي العربي الأول تحقق لمظفر النواب في قصيدته الشهيرة «وتريات ليلية» تلك التي تعيش ليومنا هذا لما فيها من تقريرية ومباشرة لاذعة شاتمة فعلت ما لم يفعل من قبل بتعرية أنظمة الذل والمساومة تجاه القضية الفلسطينية حتى غدت لازمة لكل مواطن عربي :

« أولاد القحبة

إن حضيرة خنزير أطهر من أطهركم»

وبقدر ما سجل البعض من مثقفي المساومات والمهادنات والوقوف على التل، إن لم يكن بمنطقة ـ الحياد ـ مؤاخذاتهم (الفنية) على هذه القصيدة الغاضبة واتهموها بالبذيئة، إلا أن إجابة الشاعر كانت أشد شجاعة وصراحة :

أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن عليه

إن عناصر غايرت المألوف في الشعرية العربية، تفرد بها النواب أشار لها شعبان في كتابه وهو يقارن تجربة النواب بتجارب إبداعية أخرى في محور بحثه عن تقاسم الجمهور.

التجارب هذه يتقدمها الكاتب العراقي الساخر شمران الياسري (أبو كاطع) يليه نزار قباني الذي كادت قصائده لتكون رسائل عشاق ومحمود درويش. شعبان تناول الإلقاء الشعري كميزة تفرد بها الثاني والثالث أي (درويش) فضلا عن موضوعاتهما الشعرية التي شغلت الجمهور العربي المتلقي، إلا أنه وجد في مظفر النواب «القدرة الهائلة على اجتذاب الجمهور، بل استقطاب جموع غفيرة من شتى الألوان والأجناس والأجيال والاتجاهات، فيهم أصدقاء وأعداء، وأصحاب وخصوم».

في الأغراض الشعرية وضمن واحد من محاور الكتاب كتب شعبان عن تجربة النواب (نؤاسيا ودعبليا في الآن) في إشارة معرفية لتجربتي الشاعرين أبو نؤاس وخمرياته التي امتاز بها ودعبل الخزاعي لـ«اشتهاره بحدة النقد والتعريض» مستشهدا بمقولته «50 عاما أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها، فلم أجد». وهذا ما عرف عن النواب، سواء في تجربة كتابته بالعامية ـ المحكية العراقية، أو بالعربية الفصحى، ففي العامية نجد مظفر يكتب عن الفلاح الشيوعي الذي اغتالته يد الإقطاعي في جنوب العراق (صويحب) ـ وهو تصغير لاسم صاحب ـ حسبما يجري في التسميات الريفية هناك، نجده في قصيدة أخرى يتغزل بوصفه لنهد صبية :

نكضني النهد

شايل ثكل شامه

اتعبني ذلك النهد وهو يحمل ثقلا وشما، أو ( شامة) .

في الفصحى فعل النواب ذلك في العديد من قصائده، فتجده غاضبا، صارخا، شاتما:

قدمي في الحكومات

في البدء والنصف والخاتمة

…….

الآن أعريكم

في كل عواصم هذا الوطن العربي قتلتم فرحي

…..

قمم.. قمم.. قمم

تفو عليكم يا غنم

تجده في العديد من قصائد ترتفع بالسكر ونشوة وهيام نادر .

«سكب الإبريق في كأسي نضوبا صامتا

آه مولاي فراغ الكأس بالصمت امتلى

أنقر الكأس إذا ما نضبت واشرب رنين

ما فات الكاتب في إصداره القيم هذا هو الموقف الرسمي الثقافي ـ عراقيا وعربيا إزاء تجربة النواب وما تعرضت له من حيف، فالأكاديمية العراقية وحتى بعد سقوط نظام صدام حسين أبقت على حظر دراسته أكاديميا إلا بحدود قصائده المكتوبة بالفصحى تمسكا منها بقرار حكومي صدر أواسط سبعينيات القرن الماضي يقضي بالحفاظ على سلامة اللغة العربية.

أما عربيا وضمن الانسياق خلف ازدواجية الأنظمة، فحجبت جائزة القدس عن الشاعر قبل ثلاثة أعوام في حين عقد اتحاد الأدباء العرب، في شهر حجب تلك الجائزة، اجتماعه الدوري في بغداد تحت اسم (دورة الشاعر مظفر النواب).

تضمن الكتاب ملحقا ببعض قصائد الشاعر المكتوبة بالعامية والفصحى، فضلا عن صور تجمع الشاعر بصديقه المؤلف عبد الحسين شعبان وبواقع 240 صفحة من القطع الوسط تصدره غلافه لوحة للفنان العراقي علاء بشير.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي