تجليات السرد ومكوناته في رواية «غريزة الطير»

2023-11-14

جاسم عاصي

إن متابعة الرواية العراقية ما بعد تاريخ 2003 باعتباره مفصلاً غيّر وجه الحياة، وخلق تراكما كمياً سريعاً، وكان مادة مهمة لممارسات روائية، اختلفت فيها طبيعة المعالجات وابتعد بعضها عن الطرح المباشر من خلال اعتمادها على المتخيل السردي. كذلك تفاوتت مثل هذه الممارسات وتعددت آلياتها، ومنها استعمال المتخيل الأُسطوري مثلاً، وهذا أيضاً كان محفوفاً بالحذر، غير أنه كان مساعدا على بلورة مشهد روائي قائم على آلية منضبطة، هو الاتكاء على التاريخ وذاكرته. وقدم هذا أيضاً عيّنات مختلفة. ورواية «غريزة الطير» للشاعر عبد الزهرة زكي واحدة من النصوص التي مارست فعل الدخول إلى التاريخ العراقي من خلال رؤية قارّة ومنضبطة. نحاول قراءتها.

العتبة ودلالتها

عتبة أي نص إبداعي كما هو معروف دالة تُشير إلى المحتوى الذي يعالجه الكاتب بما فيه الشخوص والأمكنة، ومن هنا يتوجب العناية بها من جانب الربط الموضوعي والفني. وعتبة رواية «غريزة الطير» تتشكل من مفردتين؛ كل واحدة منهما ذات دلالة مكتفية بذاتها من جهة، ومتحققة صلتها بالأخرى المؤشرة لطبيعة المتداول الروائي من جهة ثانية، وهما غير منفصلتين عن بعض، وليستا بعيدتين عن محتوى النص، كونهما تشكلان دلالة عميقة تمتد مع جسد النص. فـ(الغريزة) طبيعة مولدة لنتائج ظواهر داخل الرواية، باعتبارها مجموعة أفعال متداولة ونامية تكشف عن ظواهر عامّة، وحصراً (سياسية ـ اجتماعية). قدمنا السياسية لا لشيء سوى أنها ظاهرة تقيس كل الظواهر الاجتماعية من منظور واحد منحاز لذاته ومصالحه، دون النظر إلى المعطيات الاجتماعية، كونها صانعة لما هو متداول داخل الواقع بعد الأسرة باعتبارها نظاما اجتماعي مؤثرا وصانعا للظواهر. السياسي ينظر بعين واحدة مغلقة، ما يخلق نوعاً من الجور الاجتماعي، منطلقاً من مقولة (كل ما هو خارج إطاري فهو معادٍ وند لي). وهي خالقة لواقع البنية السياسية، خاصة حين تكون بنية الحزب السياسي مخلّقة وغير منطلقة من واقع طبقي خالص، له مصالح عليا صادقة. فالغريزة هنا تنطوي على براءة جينية مرحّلة من الطير في اتجاه الإنسان. بمعنى دالة على الجينات الموروثة التي تعاكس المكتسبة في حالة وجود انحراف سلوكي ينتج ظواهر سلبية. فهي أي (الغريزة) جاءت من منطلق الانحياز إلى البراءة الجينية. إنها بطبيعة التداول تمتلك فضاء واسعاً يمكن استثماره لصالح خلق الظواهر الإيجابية. أما (الطير) كطرف في العتبة، فهو منتج للبراءة، لأنه فضاء مفتوح وذو دلالة تخص المطلق. فهو كالفضاء، بل خالق له من دلالة المشكَل من توائم الطرفين في جملة مفيدة وفائضة على ما حولها، وما يخص العمق الجاري في جسد الرواية ـ النص. لذا نجد في قراءتنا للعتبة نوعا من الالتزام بالحذر في القراءة، لأننا محكومون بدلالة معنى العتبة وما تؤشر.

ثاني العتبات

ثاني العتبات في الرواية مقتطع من قصيدة، عالج من خلالها الفحوى التي أتت عليها الرواية. وهو يعكس صورتين نقيصتين الغرض منهما كشف طبيعة الرؤية التي أتت في سياق النص باعتبارهما مؤشرين لما هو جارٍ في المعالجة السردية. وهي:

المقطع الأول:

يوماً ما

كان له قلب نسر،

وكان له جناحا فراشة،

فلم يقدر على التحليق

لكنه ظل يهمُّ بالأقاصي

يبدو أن التعبير هنا اصطف مع الصورة التي عليها مبدأ الإنسان النموذج الذي حمل صفة النقيضين اللذين أشارا إلى عمق المعتقد المبدئي، الذي خلق الصورة الأخلاقية. ذلك لأن مقياس أي فعالية وجودية تُقاس بمعيار الأخلاقية المبدئية. لذا أشار إلى نموذجه(الجمعي) في النص من باب أهمية القلب، ومن ثم العاطفة والموقف من موجودات الحياة. فالتحليق ليس أهم من سر القلب المتمسك بالأخلاق المبدئية. وبعكسها ينتج ما هو مضر بالحياة، فالحلم بقي ملازماً للوجود (لكنه ظل يهمُّ للأقاصي). أما المقطع الثاني:

{حتى إذا صار له جناحا نسر

وصار له قلب فراشة،

فإنه ما عاد عابئاً بالتحليق،

ولا حالماً بالأقاصي}

فهو دال على صورة عكسية لما جاء به المقطع الأول. بمعنى ثمة بون شاسع بين (القلب والجناح) فالتحليق ليس هو الأجدر ببناء الحياة، بقدر ما هو القلب حامل لأسرار تفيد الحياة. لذا نجد في المقطعين دالة ثانية تُضاف إلى دالة العتبة الرئيسية للنص. باختصار ما أفرزه الحراك طويل الأمد من صفاء الموقف عند الشخصية الرئيسية، على الرغم مما جنته من أذى. هذه الشاعرية في الحس تُضاف إلى اللغة ذات النَفَس الشعري الذي عالج بواسطته مسار السرد في الرواية.

الكيفية والتوليد في النص

يكشف النص عن جدلية رصينة تؤكد أن نمو وقائع الرواية يعتمد جدلية التحول في الواقع من الكم إلى النوع. بمعنى أن الأحداث بتراكمها الكمي المبني على جدلية تطور الواقع إلى النوعي، أي أن الخلاصة من كل فعل مرتبط بمعناه الذاتي والموضوعي. وهذا أمر طبيعي، لكن المتوفر هو طبيعة الإيجابي والسلبي، والمضادات المتقابلة والمستعينة بالقوة المفرطة، أي أن جدلية الكم تتجه وجهتين؛ خالقة للمعنى الذي سعى إليه النموذج الإيجابي، وتطور بتوالي الكم من أجل محو الإيجابي الذي يعمل على تطوير الواقع منطقياً ووفق مبادئ تطوير الحياة بكل مكوناتها، وخلق صراع درامي طبيعي لإدراك الصورة الجديدة له، منطلقة من مبدئية حياتية وفكرية، لاسيما وجود النماذج المكتفية بمعارفهاً والمتطلعة نحو آفاق أوسع إزاء ما ُقِدم من سلوك يخولها اتخاذ موقف يجده الآخر مضاداً ومزيحاً له وليس محاوراً على سجية منطق الوجود والصراع، سواء في التاريخ أو في الحُقب المتعاقبة، وحصراً في التاريخ العراقي الذي شهد تغيرات وصراعات منذ عشرينيات القرن المنصرم. فالصراع ينشأ من الفهم الخطأ للوجود الذاتي والموضوعي، بمعنى الذاتي يغلب على الموضوعي، مما ينشئ مصالح طبقية وفئوية تصل حد العداء وبناء سياسة القسوة. فالذات تُلغي الآخر، وهو تحول سلبي بمقياس تطور مفاصل التاريخ وجدلية نموه وتطوره. وهي آفة سياسية مريضة تعمل على تأخير حركة المجتمع. فالأحداث بتواترها تخلق صورا متعددة تقلب صفحات التاريخ البعيد والقريب. كذلك تعالج منطق العلاقات المفترضة لواقع وتاريخ حافل بمتغيرات إيجابية من منظور التغيير العام، وسلبية في التطبيقات التي انتجت صورا سلبية قدم لها البلد خسائر فادحة.

لعل وجود الأُم الإنكَليزية الهوية والعراقية الوعي الإنساني (أيما هيرلي) يكاد يكون المركز الذي تدور حوله جميع الأفلاك، فهي مركز ينفتح على كل الذوات الأخرى القريبة أُسرياً والبعيدة اجتماعياً، بعكس المواقف التي يعلن عنها الآخر وفق منطق نعتها بالجاسوسية. ولنا في علاقة السيّد (صروط) في أهوار الجنوب مع الرحالة المتعاقبين على البيئة المائية خير مثل على هذه العلاقة. المسألة لم تكن متعلقة بالنموذج، بقدر ما لها علاقة بالموجود في داخل البلد (المكان) الذي يُحدد مسار ما يدور في فلك الوجود الفردي في المكان المغاير للهوية. فالأُم تداخلت حياتها مع (سليمان) بالاقتران، وأنجبت نماذج عراقية الهوية وانتماء مبدئياً وطنياً، حاولت الأُم توسيعه وتعميقه من خلال مهنتها طبيبة في مدينة البصرة. لقد كان وجودها في بغداد برفقة زوجها العراقي عاملا مؤثرا أنتج ذوات لها رؤى في بناء البلد وتطويره وإزاحة خصائص الاحتلال والهيمنة الأجنبية، وقدمت عطاء كثيراً ساهم في خلق صيرورة عراقية الهوية والانتماء للوطن. لكن موقفها الوطني جوبه بموقف وهيمنة المنتفعين وذوي المصالح الذاتية المريضة. هذه النماذج تجمعها علاقات متشعبة نمت وتطورت خلال الحدث الروائي، كالعلاقة الأُسرية والاجتماعية، ثم الفكرية ـ السياسية، حيث جنت الكثير من الحيف والأذى. لعل افتعال الحروب أهمها، لأنها أثّرت مباشرة في خلق ظروف مرتبكة ومصادرة لحرية ووجود الإنسان العراقي، خاصة الإنسان ذا الوعي العالي الذي يدرك ديالكتيك الوجود من خلال معرفة أسبابه ومبرراته. الأمر الذي تجسد من خلال العلاقات في النص عبر الاستثناء وليس القاعدة التي يُفترض منها إقامة الأُسس الوجودية. لعل التعارض المكبوت والمعَبَر عنه بالرفض الصامت بسبب حساسية النماذج الأُخرى واستعدادها لتنشيط أساليب القسوة والتصفية، واستغلال مناصبها الوظيفية والأمنية من أجل الانقضاض على المختلف، مقابل قسوة الواقع السياسي وشراسته واستخدامه لأساليب بعيدة عن منطق الحياة والعُرف الإنساني.

لقد كشف المؤلف من خلال تقسيم النص إلى خمسة أقسام يُشير إليها بعبارات مقتضبة، لكنها تكشف عن المحتوى. نحاول أن نقف عندها لإدراك مهمة القراءة للنص، ثم نتواصل في وعي مستوى الكشف المبكر لما يدور في أحداث الرواية:

1 ـ (ما دمنا عاجزين عن تغيير العالم حوالينا، فلنكن جريئين في تلطيف كوننا الخاص؛ أرواحنا، وحيواتنا)

العبارة تخص مباشرة الموقف وطبيعته وتأثره بالماحول. وهو لا يشي بالعجز، بقدر ما يوحي بصرامة الموقف وتحول الجهد الفردي والجمعي من الموضوعي نحو الذاتي. فالذاتي وفق مجريات الحدث العام يتحول إلى موضوعي خالص، لأنه يخص مجموع مواقف الشخوص وهي تتداول مفردات وجودها على نمط الانغلاق على الداخل. ونقصد بالداخل انحسار النشاطات التي من شأنها التصادم مع الواقع، لأنها تعي ما يجري وتفهم مبرراته السياسية التي أنتجت مواقف وحالات اجتماعية. وهو نوع من الاحتراز ليس إلا. وضمن هذا لا تخلو جدلية الوجود من مستوى جرأة الطرح لفضح المستور. لأن الكاتب أخذ على نفسه أن يتعامل مع مثل هذه الظواهر بروح الشاعر. والكاتب معاً، وهو في الأساس شاعر كهوية إبداعية، وأنتج كتبا في الكتابة الحرة التي تشمل السرد أساساً والانثيال أصلاً في العلاقة مع الأمكنة الاستثنائية، من خلال فك لغزها العصي. أن تواصل هذا القسم من الرواية كشف عن مجموع العلاقات الأسرية والاجتماعية، وبالتالي السياسية التي أنتجت صوّر الويلات في التعامل مع النماذج. لقد حاول الكاتب أن يخلق مجالات متعددة من أجل خلق طبيعة المسار الذي استل وقائع من طبيعة المسار للتاريخ العراقي المعاصر بكل تناقضاته ومآسيه، حيث تعامل بلغة مرهفة رشحت حساسية الشاعر أكثر من حساسية السارد.

2 ــ «حين تصنع الحكومات الحروب على الناس تحصين أرواحهم من الخراب الذي تخلقه الحرب فيهم»

في هذا الضرب من مفصل الرواية يعالج الكاتب ظاهرة الحروب المفتعلة على قوى الشعب من الساسة والمتسلطين، وهو نوع من الأفعال التي تُشيع الرهبة كمصدر لتحديد التمرد وتنشيط وجهات النظر في كشف ما هو مسيء للوجود، الأمر الذي يخلق نوعا من استرداد القيمة المفقودة لدى هؤلاء، وبالتالي يأتي بالضرر على العامّة. ويعجل في اضمحلال تلك السلطة. إن التراكم في مثل هذه الأفعال يؤدي إلى خلق النوع الذي ارتكزت عليه أحداث الرواية في تسلسل منطقي لتطور الحراك السياسي والتلاعب بمقدرات النماذج الوطنية. والرواية هنا ركزت بنيتها السردية على تحصيل النتائج، دون الخوض في التفاصيل والشعارات، ذلك لأنها حاصل تحصيل. فالرواية وثيقة إبداعية وليست مدونة تأريخية. وهذا ما ارتأى الكاتب لروايته أن تكون، فرصة ليمنح القارئ مثل هذه المحصلة التي تبعث النشاط الذاتي للمتلقي والتفاعل الحي، وليس أخذ الأمور بشكل جاهز كما لو أنه يقرأ وثيقة في كتاب المبحث التاريخي.

3 ــ «ما أصعب أن تكون الشيخوخة مثل المصائب لا تأتي فرادى. أحياناً، في لحظة قسوة غير متوقعة، يستحيل الإنسان فجأة إلى عجوز»

في هذا المقطع أو الاستهلال السابق للقسم الثالث من الرواية، حيث يطرح فكرة التطور السلبي أو بدئه مستعملاً مرحلة الشيخوخة التي حصلت في حياة الأُم، وبالتالي في بنية الواقع الذي لا يعكس سوى التضاد مع القوى الخيّرة والمطالبة بالتغيير. وعبارة (لا تأتي فرادى) تعني البارومتر الذي منح السلطويين فكرة الوصول إلى مرحلة يصعب معها الابتعاد عن المواجهة. فالشيخوخة هنا تشمل ما حصل لحراك الواقع الذي عبّرت عنه العبارة بالشيخوخة، بمعنى الذروة التي هي حاصل تحصيل للصراع الدائر في الواقع. فالكاتب وزّع نصه وفق جدلية الحياة الاجتماعية والسياسية، دون العمل على تسريع بنية الأحداث، بقدر ما ترك حراك الجدل الذي تقوم عليه الحياة هو الأساس في تغيير المسار العام للمفصل التاريخي.

4 ـ «المدن هي التي في دواخلنا وليست تلك التي على الأرض»

يطرح في هذا القسم قيمة الأرض التي تنتمي إليها المدن. والمدن هنا تحفل بالقيمة الروحية التي تتجسد في التاريخ السري للأفراد والجماعات. إن تاريخ البلد لا يُحتسب وفق طول المكوث على أرضها، وليس الأرض كوثيقة تثبت الانتماء، بقدر ما يكون الانتماء من خلال ما تختزنه الذات الإنسانية للتاريخ السري بين الفرد والأرض. وهذا ما اكتملت صورته في حياة عائلة (الأُم) الإنكَليزية، ومن أحاطها من أفراد عقيدتهم هي الوطنية وليست الشعارات والدعوات وارتجال الشعارات. إن كل ما حصل للنماذج من حيف اجتماعي وسياسي، هو حصيلة السياسات الخاطئة والمؤدية إلى هذه النتائج. لقد عبّر عنها الفصل باقتدار سردي ومحصلة روائية رسالتها عكس ما تركته الأحداث وما أسفر عنه الصراع بكل أشكاله، سواء لتفتيت لحمة المجتمع وقواه السياسية، أو إدراك النتائج والمصائر.

5 ــ «الأبقى هو ما يضيع»

في هذا القسم من النص يُشير الكاتب إلى ما للتأثير من وقع في ترك سمات الأثر على الواقع الذي تحمله الذاكرة المدعومة بالفكر النيّر. فـ(الأبقى) يمثل الصورة الحقيقية للجهد الإنساني الذي أنتجته وتبنته النماذج في الرواية، والتي حصدت الويلات والألم الدائم، شأنها شأن كل فصائل وفئات العامّة. وهذا يعني بقاء مثل هذا التاريخ بتفاصيله المؤلمة متمثلاً الهوية الوطنية. أما (ما يضيع) فهو كناية عن الصورة المضيئة من هذا التاريخ، فالقصد ليس الضياع الأبدي، وإنما البقاء الأبدي. ولعل رحلة العائلة ضمن تاريخ البلد عيّنة مضيئة، لما انطوت عليه من صور مشرقة رغم ما تظهره من ألم وخسائر هي الهوية التي حملها كل نموذج في النص، ضمن صورته الذاتية وجهده الإنساني. إن الأبقى هو ما يضيع؛ يعني الربح في ذاكرته التاريخ، والخسارة للطرف الثاني الذي خلق الصراع غير المتكافئ بالوسائل، وليس بالمبادئ. ولعل الطرح الوطني من يبحث عن الخلود في التاريخ. نرى أن لسان الرواية قال هذا، ليس بهذا المقطع الذي سبق الفصل، بل ضمن جملة الحراك داخل النص.

مركز الفكر وما حوله

كانت المعالجة في الرواية تخص البنية الفكرية التي أنتجت بنى أساسية في الواقع، لعل أهمها الاجتماعية والسياسية، لذا نجد الصراع والتصعيد الدرامي ينشأ بين قوى رافضة للبعد الوطني لفئات وتشكيلات ذات بُعد اجتماعي وسياسي، متأثرة بما استجد في متغير العائلة التي قدمت نموذجها في عائلة (سليمان) وزوجته (إيما) الإنكليزية. والميل الإنساني في رؤيتها للحياة في العراق. هذه الإشكالية لم تمر عفوياً دون قصد التصدي لعناصرها، مما سبب إشكالية قائمة على الضغط والاستلاب المستمر. بمعنى كان التعارض الفكري منتجا لتعارض حياتي، خاصة إذا عرفنا منطلق كلا الطرفين. فنحن أمام منطلقات متعارضة لا تنتج سوى القطيعة وتبعثر المشروع الوطني، لذا نجد في وحدة الفكر أساساً في تطوير الحدث الروائي وتناميه وفق الحراك المتلاحق. لقد تداخل المروي مع مشروع الكتابة (لقد بقيت طيلة حياتي أرجئ التفكير بالكتابة. لقد ضاع منا الكثير، لكن الأبقى هو ما يضيع). وهو الحاصل الذي فرضته الحتمية التاريخية، سواء على النماذج أو البلد. من هنا كان (آدم) هو الأمل المرتقب (إن ومض ابتسامة ما طفا على وجه آدم، من ذلك الومض انبثق بريق، بريق بدا مثل جملة موسيقية تأتي بغتة من بيانو إيما هيرلي منساباً من هدوء حالم لتنفجر عاصفة من نور). هذه النهاية المفتوحة للرواية تعطي الصورة الأكثر جدارة في الوجود، لأنها خرجت من رحم الصراع الكبير الذي دارت رحاه لتنتج وثيقة (رواية) تُدين وتكشف ما تستر وراء الباطل السياسي.

أما ما كان داعماً لمثل هذا الحراك السردي، فهو القدرة على ترتيب الأصوات كنماذج روائية مارست دورها بكل حرية سردية، فقد جرت عناية واضحة للبنية النفسية كشف تركيبة الشخصيات عبر مسار السرد، وليس ضمن تقرير يُسيء إلى السرد المنضبط. ليس ثمة تداخل قسري في بناء الفصول المحتشدة برؤى النماذج. وقد مست اللغة الموائمة (اللغة الشعبية) مع اللغة الأُم (العربية الفصحى) دون أن تترك شرخاً، لأن المؤلف ـ وهو استنتاج ـ كونه انطلق في هذا من الحس الذاتي العفوي، فكان مدعاة للتعاطف والانحياز. لقد قدمت الرواية فعلاً مركزياً هو الصراع الكبير في المجتمع، والمتفرع إلى صراعات فرعية كبنيات توسعت بفعل التراكم إلى دالة لتطوير الفعل الأكبر والدائر على جسد الرواية كصورة أمينة لحراك اجتماعي سياسي.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي