بعد 70 سنة: عودة إلى فنّ بديعة مصابني وزمانها

2023-11-18

حسن داوود

لو شاء أحد أن يصنع من مذكّرات بديعة مصابني عملا مصوّرا لكان المسلسل التلفزيوني الطويل، وليس الفيلم السينمائي، هو ما سينتجه. ذاك أنه، بعد أن يقرأ مذكراتها، سيرى أن تلك المرأة عاشت حقبا متبدّلة وغراميات (كانت تسميها صداقات) كثيرة، وانتقالات بين الأمكنة لا تُعدّ، وسفرات إلى الخارج لم تكن متاحة إلا لأقل القليلين في ذلك الزمن. في الفيلم العربي لا تسافر البطلة أو البطل إلا مرة واحدة، للعلاج، ثم تعود غالبا، أو دائما، وافرة الصحة. وهي لا تقع في الغرام إلا مرّة واحدة. بديعة مصابني حدث لها كل ما يحدث في حياة البشر، لكن بتقلّبات عاصفة. كان الزمن متقلّبا هو أيضا، حيث الفقر المدقع والمرض والجوع، وصولا إلى الثراء والشهرة. كان الانتقال يجري غالبا على القدمين، حتى إن تعلّق الأمر بالمسافات البعيدة الفاصلة بين طرابلس وبيروت مثلا. كانت والدة بديعة تؤثر توفير أجرة الركوب، وإن كان الثمن تشقّق القدمين وإنهاك الجسم حتى الاقتراب من الموت، رغم ذلك، وبعد التمكن من إنجاز تلك الرحلة، شاءت الأم أن ترافق ابنتها، سائرتين على الأقدام، من مدينة جبيل اللبنانية إلى العاصمة المصرية القاهرة.

ونحن، مع المذكّرات نُدهش من تغيّر أحوال الأمكنة. لم تعد مشاهد الطرقات، كما هي في عيني بديعة مصابني، فبدل التراب والوحول تحوّلت واجهات المدن أمامها إلى أن تكون ساطعة الإضاءة. وبدلا من الحنطور الذي يُجرّ بالخيول أمكن لبديعة مصابني أن تكون لها سيارات فخمة قادت بعضها بنفسها، وأهدت بعضها لأقرباء لها، كما كانت كانت أول امرأة في مصر تسافر بالطائرة، كما تقول في مذكّراتها. وهي تنقّلت بين بلدان كثيرة، ليس فقط بين لبنان وسوريا وفلسطين ومصر، حيث كانت تقيم إقامات متفاوتة، تبعا لطول مدة تقديم عروضها الفنية في تلك البلدان، بل إنها عرفت الكثير من المدن العربية في شمالي افريقيا وسواها ومدن العالم الواسع. أولى سفراتها كانت إلى الأرجنتين، مع عائلتها المدقعة، ولم يكن قد مضى وقت كثير على تعرّضها للإغتصاب. كانت في السابعة آنذاك، وأمها الساخطة جعلّت تشهّر بها وبفعلتها أمام الجميع. هناك في بوينس آيرس كان المنفى الذي قضت فيه الطفلة سنوات ألحقت خلالها بالمدرسة، حيث تعلّمت اللغة الإسبانية، لكن الفقر لم يبرح، بل ومرة أخرى، في الأرجنتين كما في لبنان وسوريا، تمزّقت العائلة وتوزع كل فرد منها في سبيل.

أما رحلات العمل التي قامت بها، بعد أن تحقّق لها النجاح في الفن، فكثيرا ما تذكّر برحلات الفرق الفنية الأمريكية بين الولايات، تلك التي كثيرا ما شاهدناها في تلك الأفلام. في البداية كانت الدول القريبة ومدنها هي المجال الذي أدت فيه بديعة عروضها. في المذكرات تبدو المسافات بين هذه البلدان أكثر قربا مما تبدو الآن، ليس لأن الطريق البرية كانت مفتوحة بين بيروت ويافا مثلا، بل لأن أهلها كانوا متداخلين عارفين بما يجري هناك. لم تستغرب بديعة شيئا في إقاماتها الكثيرة والمختلفة، فدائما عند الوصول إلى أي مدينة، كانت تجد مستقبلين ودودين لها ولفرقتها.

وكان المال حاضرا بقوة في المذكّرات، أعني في العروض الفنية، وفي العلاقة بين الأهل الذين هبطت على فقرهم الثروة المتحصّلة من الفنّ. كما كان المال حاضرا بقوة بين بديعة وعشاقها، وكذلك بينها وبين أعضاء فرقتها، وبينها وبين صديقاتها وغريماتها العاملات مثلها في الفن، كما بينها وبين زوجها الفنان المشهور نجيب الريحاني. جنبا إلى جنب كانت تسير أخبار الحفلات والعروض في المسارح مع الحسابات والعائدات المالية، ربحا وخسارة. ودائما كانت بديعة تصرّح بشكواها من طمع الناس بمالها، الذي حصّلت منه الكثير وانتُهب منه الكثير. وهي، حين عادت إلى لبنان هربا وتسللا من مصلحة الضرائب المتراكمة عليها، وكان الكازينو الذي امتلكته مشرفا على الإفلاس، كانت قد باعت كل ما امتلكته هناك في مصر.

لكن صاحبة المذكرات تروي، بالكثير من التفصيل، تاريخ الحركة الفنية في البلدان التي تعدّدت فيها إقاماتها. كل ما يتصل بالتجمعات الفنية ونجومها وأمكنة عروضها (بالأسماء وبأسماء المالكين) كان لبديعة حضور فيها، سواء بغنائها ورقصها، أو باستئجار تلك الأمكنة أو شراء بعضها. ولأن حضورها العريض كان قد بدأ في مطلع القرن العشرين، في أواخر عقده الأول، أتاحت لنا مذكراتها أن نلمّ بتواريخ التحولات المفصلية المتعلقة بالعروض الغنائية والمسرحية. نقرأ عندها مثلا عن أول تحوّل في نوعية الممثلين، عبر الإشارة إلى شابّين مثقفين بادرا إلى تقديم مسرحية ترجمها أحدهما، فيما كان الممثلون قبل ذلك من فقراء الحال، الذين لم يحصّلوا علما ولم يتميّزوا بموهبة.

وقد امتدت التجربة ببديعة مصابني واتسعت مع اتساع مساحة المجال الفني بظهور السينما وازدياد الإقبال على حضور المسرح، فكانت حاضرة، بل راعية لأسماء اتسعت شهرتها ونجوميتها. تروي في المذكرات مثلا، كيف أنها استقلبت محمد عبد الوهاب، وهو بعد بين الطفولة والصبا، وكيف استقبلت تحية كاريوكا، وكيف ضمّت إلى مسرحها فريد الأطرش وأسمهان إلخ…

*كانت بديعة مصابني قد أملت مذكّراتها سنة 1956، آنذاك كانت في الرابعة والستين، حسب ما يقدّر باسم مروان فليفل الذي حقّق الطبعة الثانية مؤرخا لها بسنة 2024. بضع وسبعون سنة تفصل بين صدور الطبعة الأولى التي قدّمت لها وحررتها نازك باسيلا. في الطبعة الثانية هذه أضاف فليفل تعليقات وحواشي ساعدت في التعرف على جوانب مهمة ومختلفة من ذلك التاريخ الاجتماعي والسياسي والفنّي. كما قابل بين ما كان كتبه زوج مصابني نجيب الريحاني في كتاب مذكّراته، وما أتت هي على ذكره حول علاقتها به. الطبعة الجديدة صدرت عن «دار نلسن» و»ريشة للنشر والتوزيع» في 406 صفحات.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي