مجموعة «قِدِّيس خارج اللوحة»… وتشريحُ المواربة

2023-11-20

عبده منصور المحمودي

في سياق اشتغاله على الشكل الشعري الجديد، تأتي مجموعة الشاعر والكاتب أحمد السلامي «قِدِّيْسٌ خارج اللوحة» الصادرة في طبعتها الأولى عن منشورات مواعيد في صنعاء، 2023. وهي المجموعة الرابعة من سيرته الشعرية؛ إذ سبق أن صدر له: «ارتباك الغريب» و»حياة بلا باب» و»دون أن ينتبه لذلك أحد».

تقاسمت نصوصَ هذا العمل ثيماتٌ ثلاث، توَزّعتْ على أقسامه الثلاثة: «الانتقام للموتى» و»احتفال» و»أقرب إلى الجحيم». ارتبطت الثيمة الأولى بأحوال المصير غير المستقر المتناقض مع ما تسعى إليه الذات الإنسانية، والذات الشاعرة منها بوجه خاص؛ إذ وردت ـ في النص «فلاحٌ هارب» ـ راغبةً في عمل الفلاحة، لكنها جانبتْه إلى فلاحة الكلمات شعرا، ثم انتابها شعورٌ بعدم الظفر بجوهر الشعرية، الذي تراءى لها كامنا في فلاحة الأرض لا الكلمات. ويندرج في هذه الثيمة أيضا، الحلم المتعثر، وطريق السعادة المُوْصِل إلى الشقاء. ونقيضه طريق اليأس المُوْصِل إلى مجاورة الأمل. مع ازدواج الثنائيتين: (اليأس/ الأمل) في ذاتٍ واحدة، أحال صاحبُها عليهما معا بالنقيضين: (التفاؤل/ التشاؤم) بعد انصهارهما فيه صفةً واحدة: «متشائل».

وارتبطت مضامين الثيمة الثانية، بشعرية العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، وبتناقضات هذه العلاقة: احتفالا بالمرأة والحب الناضح بالسعادة، ورتابةً في اعتيادية الحياة معها في قفص الزوجية. أما الثيمة الثالثة، فقد تضمّنتْ الانفصام الجدلي في علاقة الإنسان بخالقة من خلال رمزية القديس والجحيم، كما تضمّنت ما يتجانس مع مضامين اشتغالها من معطيات الحرب والسلام.

مواربة القداسة والجحيم

على بُنْية التناقض في إحالات «القديس» و«الجحيم» قام معمارُ الشعرية في هذه المجموعة التي اتّكأت في عتبتها الأولى، على عنوان واحدٍ من نصوصها: «قديس خارج اللوحة»؛ لما في هذا النص من تكثيفٍ لرؤيتها الشعرية، التي تمظهرت في سياقات نصوصها. وقد استهلّ الشاعر نصّ العنونة ـ هذا ـ مخاطبا فيه القديس الدّعي:

«ما أعرفه تماما

أنك تنتمي لفصيلة البشر

تيَقّن من الأمر بنفسك

انتزعْ ملامحك بهدوء

من داخل تلك اللوحة

التي تظن أنك بداخلها

وحين تستعيد ظلك

تأمل اللوحة من خارجها

يمكنك الاقتراب أكثر

سترى أن الأنبياء والقديسين في اللوحة

لا يفتقدون صورتك

لأنك لست واحدا منهم».

في هذا الاستهلال ـ وسياق النص كله ـ تفكيكٌ لنموذجٍ من الأدعياء، وصل به تماديه إلى تقَمُّصِ ماهية القديسين، الذين يحيل حضورُهم الشعري والأيديولوجي على النقاء، وعلى واقعية التعاطي مع كينونة الإنسان المنسوجة بتناقض الثنائيتين: (الخير/ الشر) اللتين يحاول «القديس الدّعي» ـ موارِبا ـ الانسلاخ عنهما؛ فيقف الخطاب الشعري في وجهه، مضيئا حقيقتَهُ التي استُدْرِج إلى اليقين بها، إذ تأمّل في لوحة القديسين بعد خروجه منها، فلم ير أثرا لخروجه على حال مَنْ فيها؛ كونهم لم يشعروا بافتقاده، وبذلك انتفى انتماؤه إليهم. كما تُسَلِّط هذه المكاشفة الضوءَ على حقيقة القديس الدّعي، في النص «الجحيم»:

«كل أولئك

الذين جلبوا الجحيم إلى حياتنا

يحلمون بالجنة».

في هذه السطور الشعرية الثلاثة تَشَكّلَ النصُ على هيئة ومضة شعرية، تكاثفت فيها بُنيةُ المفارقة بين سلوكيات القديس الدّعي، وجوهر الخير الذي اختُزِلت قداستُه في الإحالة على مصير النعيم في (الجنة) لا نقيضه (الجحيم). وتبلغ المفارقة ذروة الإدهاش حينما يطمع القِدِّيس الدَّعي في الفوز بمصير النعيم، متغافلا عما يستحقه من جحيمٍ، على ما تمادى في جَلْبِهِ من المصير العقابي إلى الحياة الإنسانية المعيشة. ولم تقف هذه المكاشفة عند هذه الإضاءة، وإنما عزّزتْها بصورةٍ واقعيةٍ، في النص «الأقرب للجحيم» الذي امتد إليه نسيج الخطاب الشعري الموجّه إلى دعيّ القداسة:

«الأشلاء التي يمزقها الحزام الناسف

أعني أشلاءك أنتَ

وحدها تشير بصمتٍ مبعثرٍ

إلى مَنْ منّا صار أكثر قربا من الجحيم».

يحيل النص على مشهدٍ دامٍ، عادةً ما يتباهى به ذوو الأفكار المتطرفة، وهم يقترفون في حق الحياة عملياتهم الإرهابية، تلك العمليات التي تكتظ فيها أجسادُهم الممزقة. ومن حال أشلائهم تلتقط المَلَكَةُ الشعريةُ معنى الحياة، المنبثق من مقارنةٍ بين الحياة وأشلاء اللحظة الراعبة؛ فتفضي ـ تلك المقارنة المتزامنة ـ إلى استيعاب المسافة الحقيقية، التي تفصل طرفي المقارنة عن مصير الجحيم؛ هذا المصير البعيد عن المنتصرين للحياة، القريب من ذوي الأشلاء المتناثرة.

السلام على شفاه الدمار

تتعاطى الرؤية الشعرية مع الحرب، من زاويةٍ استشرافيةٍ للمدى الذي تفقد فيه أيّ حربٍ عواملَ استمراراها، من مثل ما تضمّنَتْه ومضةُ «السلام»:

«من بين غبار المعارك

وبعد كل حربٍ

يطل السلام حزينا ووحيدا

لا تلتفتُ إليه

إلا عيون القتلى».

يشتبك المعنى الشعري، مع اللحظة القاتمة، التي تلد السلام مثخنًا بالحزن والاغتراب في محيطٍ منهكٍ بالحرب. كما تتجلى ملامسةٌ شعريةٌ ذكيةٌ حدّ الفرادة الباذخة، تلك هي ملامسة الدهشة في عيون القتلى بعد انتهاء الحرب، وهم يجلدون السلامَ بنظراتهم المتسائلة عن شأنهم فيه. وتتجلى في النص: «عندما تنتهي الحرب» مكاشفةٌ ماكنةُ السَبر لأحوال مَنْ حياتهم قائمة على الحرب، لا على انتهائها:

«سيرتبك المرضى بالحرب عندما تحط رحالها فجأة

سترتجف أصابع مَنْ أدمنوا الكتابة عن الانتماء للمقابر

سيعيدون تعريف الوطن بأنه الذي يجب أن يُحارَب إلى الأبد.

وفي سياق ذلك سبْرٌ لحيثيات الحرب، لاسيما ما يتعلق منها بأحداث الربيع العربي، الذي كُثِّفت الإحالة عليه بالجملة «هَرِمْنا» أشهر جملةٍ متداولة قيلت في أيامه الأولى في تونس. مع تحويرٍ لإحالاتها يمنيّاً، بدلالاتها على ما آلت إليه الأحداث في هذا البلد: «لكننا هرمنا»؛ فقد آلت تلك الأحداث إلى نهاياتٍ غير محسوبة؛ حينما لم تكن سوى «ثورة انتحرت بالصمت واقتسام الغنيمة».

ومن هذه التحولات تأخذ الأنساق الشعرية مِبضَعَ التشريح لمتوالية «الحكمة اليمنية» المُفرَغَة من جوهرها بعدما حلّتْ مَحَلَّه الخيبة والنكوص، وفي هذا التشريح تشخيصٌ لأزمة التعاطي مع المتوارث من تدوينات الزهو، باتكالٍ محضٍ، غير مسؤولٍ عن المحافظة على امتلائها بالمعنى لا فراغها منه.

تحيل نصوصُ هذا العمل على اشتغالٍ شعريٍّ واعٍ على غايته في أن يستوفي أقصى المستطاع من التقنيات الإبداعية، من مثل: الاستئناس بالرمزية، لاسيما رمزية القشة والغريق، في النص: «احتمالات القشة والغريق» أو التجسير العصري بين الرؤية الشعرية وحيوية الحاضر، من خلال ورود مصطلحات الفضاء الافتراضي والإنترنت. كذلك هو الأمر في استثمار الدلالات المحيلة على اشتقاقات الكتابة والشعر، بما في ذلك الإحالة في رمزية الكتاب التراثي «شمس المعارف». وضمن ذلك يأتي التوظيف الشعري لخصوصية الجغرافيا المحلية، لاسيما ما كان ساطعا منها في تضمينِ اسمِ فنانٍ يمني معروف هو الفنان محمد حمود الحارثي، بمعية اسمِ أغنيته: «المُعَنّى يقول يا من سكنْ في فؤادي» في سياق استثمار العمل لما يتعلق بفن الغناء والموسيقى من معطياتٍ، أسهمتْ في إثراء إيحاءاته وتخصيب معانيه.

شاعر وناقد يمني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي