بول شاوول يكتب انتصار أطفال غزة على الموت

2023-11-21

نبيل مملوك

يقرأ بول شاوول (1942) في قصيدته «هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم» الصادرة عن دار راية للنشر (طبعة أولى 2023 ) مقتلة أطفال غزة الأزلية بطريقة نقدية من جهة تتمثل في التطرق للبعد الديني والعقائدي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، إضافة إلى الصمت المطبق عالميا مع تواتر المذبحة فضلا عن الانزياح الفني النثري، المتمثل باستبدال الغنائية بالتصويرية لتكون الإشكالية التي تدور حول قصدية النص كالتالي: كيف تجسد الواقع الإنساني وشعريته في هذه القصيدة؟ وما هي الأدوات التي أبقت على شعرية النص؟

لم يكن أطفال غزة في هذا النص مجرد موضوع تبنى على أساسه بنية النص، بل كانت منطلقا إنسانيا لمرحلة نقدية أطلقها شاوول على منحيين، الشكلي أولا من خلال ابتعاده عن الغنائية والرومنطيقية المتواترة في أكثر من نص عربي نثري أم شعري حينما تكون فلسطين النقطة المركزية الولادة لسياقات سردية وشعرية، والتماهي مع التصويرية التي عبد ت.س. إليوت (1888-1948 ) الطريق الشعري أمامها «هؤلا الأطفال الذين لم يكن لهم أن ينسوا (والطفولة نسيان)/ ولم يكن لهم أن يتذكروا (والطفولة تذكر)» أي أن الشاعر من خلال لجوئه إلى نزعة التصوير في أكثر من مقطع في القصيدة، يحاول التطبيع مع شكل قرائي حديث قائم على رسم الصورة البديهية لأطفال يخسرون حق الإدراك الحسي والسلوكي، ناهيك عن دعوة للتخلي عن نبرة عاطفية باتت تتشابه ألفاظها وتراكيبها كلما تكاثرت النصوص الشعرية التي تتحول تدريجيا إلى خطابات مرغوبة من خلال النبرة الحماسية التي غيبها بدوره شاؤول وأظهر نقمته على التلطي الديني للصهاينة «ذلك أن الوحوش الطالعة من التوراة… ترسم حول الطفل حدود الجحيم». يستأنف شاعر «دفتر سيجارة» رسم المشهد بلغة إنسانية تجرم المسيطر بصيغة رمزية متقدمة، والحق أن الوحوش الذين يخرجون من التوراة، أي الإسرائيليين هي بمثابة نقد لاذع للدين يحيلنا إلى لهجة أدونيس (1930) في قصيدته «الوقت» لاسيما السطرين الإشكاليين: «أترى قتلك من ربكَ آت/ أم ربك من قتلك آت»… وكأن الشاعر يريد لصق الدعاية الدينية بالسياسية ليظهر كيف تؤثر العاطفة الناتجة عن النص الديني على تشكيل وعي سياسي متطرف لدى الجماعة، وبالتالي أتى النقد بهذه المباشرة قصدا والرمزية فنا لتكرس الخلفية الدينية والعصبية التوراتية التي تبيح وفقا للوحوش القتل في سبيل البقاء، ليكون المنحى النقدي عند بول شاؤول مبنيا على التصوير من أجل توكيد صورة يتغاضى العالم عن تأملها ومناصرة الأطفال الذين يشبهون الطبيعة بفطرة وجودهم.

الشعرية ودلالة أدواتها

لم يتخل بول شاؤول عن الأدوات الأساسية التي تبني قصيدة النثر إيقاعيا فأتى التكرار لعنوان القصيدة بصيغ مختلفة «هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم» ليكون صيغة خبرية صارخة لمحاكمة الآخر اللاهث خلف السيطرة والتمدد، فضلا عن تكرار عبارة «وحوش تطلع من التوراة» ثلاث مرات على الأقل أتى لتوكيد انحياز شاؤول للطرف المستضعف والمحق في رغبته في البقاء على قيد الحياة، وإدانة محتل يوظف الدين في خدمة السياسة، لينسحب مناخ التواتر اللغوي على مجمل القصيدة متراوحا بين تكرار أدوات النفي وأحرف العطف رغبة في الإسهاب والتكثيف في آن. يرى محمد عناني في كتابه «من قضايا الأدب الحديث» أن الصورة المجسدة تهيئ الجدة والنضارة وتحدث ما يشبه هزة الاكتشاف لدى المتلقي. والحق أن التصوير مهما كان بديهيا إلا أنه في القالب الفني يتخذ منحى المفاجأة فحين يلخص بول شاوول الأسى المسبوق بالعنف والكراهية بالانعكاس «ولا وجوه سوى ما يصنعه المعدن/ سوى ما يسببه النصل/ سوى ما تخليه المزامير على قلوبهم الداكنة». بصيغة خبرية كاريكاتيرية يصبح في إمكاننا الحديث عن تخطي المستوى اللغوي لرمزيات تقليدية كالأرض والبرتقال والعلم ولفظة الجليل، ليكون الحديث عن الخصم بهذه النبرة الواضحة صيغة شعرية نادرة تحافظ على النمط الشعري من جهة، وتعطي منحى الصراع أكثر فردانية بعيدا عما يجتره اللاوعي العام حول صراع بلغ عقده الثامن. حرص بول شاؤول على رسم اللوحة بصيغة درامية يكون فيها النقد مبتدأ لانتصار الطرف الأضعف على الطرف الأقوى بإجرامه والمتسلح بالتغاضي، وإذا كان الله والإنسان والعالم أركان للرؤية إلى العالم عند لوسيان غولدمان (1913- 1970) فإن شاؤول رسم هذه الأركان لتكون رؤيته إلى العالم مبنية على قتل وحشة الموت، من خلال تخليد أطفال غزة الناجين والمستشهدين، ما يضعنا أمام سؤال مركزي هل يكفي النص الواحد ليقول كل شيء عن صراع يكاد يكون سرمديا، وربما متواترا في منحاه التاريخي؟

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي