أسئلة الإبداع في رواية «رحلات في حجرة الكتابة» لبول أوستر

2023-12-15

عبير غالب علبة

«رحلات في حجرة الكتابة» رواية من إصدار منشورات المتوسط للكاتب الأمريكي بول أوستر ترجمها عن الإنكليزية سامر أبو هواش، وهي من الروايات التي تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة. والحال أن عنوان الرواية المفتوح على دلالات متعددة الإجابات، أضاء الكاتب بعضاً منها في دروب سرده، وترك للمتلقي البحث عن الإجابات المؤجلة، والهدف من ذلك جعل المتلقي مشاركاً في إنتاج النص ومغنياً لأبعاده. تبدأ الرواية بوصف وضعية جلوس لرجل مسن يُدعى السيد بلانك، لم يوضح لنا الكاتب ما إذا كان بلانك يجلس في غرفة، أو معتقل، أو مشفى، لكن ما أخبرنا به الراوي السارد أن مكان إقامة بلانك يخضع لمراقبة شديدة. وقد أثر هذا الفضاء المكاني الإجباري على مشاعر بلانك، وأبرز قلقه وتوتره؛ لأنه مكان أُغلقت مخارجُه، وسُدت المساربُ الممكنة للخلاص، رغم تساؤلاته المتكررة عن إمكانية الخروج. أما ما هو جدير بالذكر أن حجرته لا تعنينا ببعدها المادي وانعكاسها على شخصية قاطنه فقط، بل يعنينا أيضاً بعدها الدلالي وما يثير فينا من أسئلة: هل هي مجردُ حجرة لها نافذة عالية مغلقة وباب موصد كما وصفها الكاتب؟ أو هي مكان يحمل دلالة رمزية يمكن أن تشير إلى خيال المبدع؛ لأننا علمنا من الراوي السارد أن بلانك يلجأ إلى تأمل بورتريهات لشخصيات كثيرة، وقراءة جذاذات أوراق موجودة في الحجرة، ربما تكون إشارة إلى تصورات الكاتب وتفكيره بشخصيات أعماله وسماتها قبل البدء بالكتابة. ليس هذا فحسب، بل ثمة مخطوط في الحجرة عن قصة رجل يُدعى غراف يُطلب من بلانك إكمالها. وأثناء قراءة قصة غراف ومحاولات إكمالها يزور بلانك أناسٌ كثر، وتراوده أطيافٌ لأشخاص آخرين كلفهم بمهمات صعبة. تضعنا الرواية في حالة من الشك والالتباس؛ لأنها تتبع سرداً حداثياً يتسم بالزوغان والمراوغة، وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل زوار بلانك أشخاص حقيقيون، أو هم خيالات لكائنات مصنوعة من الكلمات استطاعت أن تتجاوز طبيعتها القولية الخالصة على حد تعبير «لور هيم» وتحاكم الكاتب الذي خلقها. وما يلفت النظر في الرواية هو أبعادها الرمزية، فنحن لا نتعامل مع شخوص الرواية استناداً إلى إحالاتها المرجعية المباشرة؛ ثمة أشياءُ مضمرةٌ يكمن فيها المعنى الحقيقي الذي قصده المؤلف، أو ربما لم يقصده؛ لأن مضمون الرواية المفتوح على التأويل قد يشير إلى مقاصد وقراءات متعددة.

في رأيي الشخصي أن كل من زار بلانك هم خيالات لأبطال قصصه، ونقطة المفارقة أن الروايات غالباً تعالج الإشكالات الوجودية لشخصيات متخيلة تحيل على الواقع؛ أما في رواية أوستر تخرج الشخصيات من عالمها المُتخيل؛ لتحاسب خالقها على الإشكالات الوجودية، التي وضعها فيها. تتمرد الشخصيات على كاتبها لأنه مارس عليها الضغط الأيديولوجي حين أرسلها في مهمات لا ترغب فيها، وهذا يتناقض مع الطبيعة الإنسانية المفطورة على حرية التفكير واتخاذ القرار؛ لذلك أرادت أن تتحرر من المهمات السياسية والأطر الأيديولوجية التي وضعها الكاتب فيها، ربما لأن لديها مهمة أوسع وأعمق: وهي اكتشاف الوجود بتعدده وغناه وإمكاناته اللامنتهية.

وليس غريباً أن تحاسب الشخصيات المتخيلة مبدعها، بوصفه مُطلق القدرة، لأنه تحكم فيها وفي حياتها، واقتادها إلى مصائر لا ترغب فيها. رحلات في حجرة الكتابة هي رحلات التجريب والكشف عن مساحات جديدة في عالم الرواية وبنائها الأسلوبي. تخترق هذه الرحلات ثوابت الرواية؛ لتعلن بصورة غير مباشرة أهم أسئلة الكتابة وهي: كيف نكتب؟ لمن نكتب؟ لماذا نكتب؟ لعل في طرح السؤال الأول: كيف نكتب؟ خلخلة للثوابت وإعادة نظر في يقينيات ثقافتنا العربية المُشبعة بالجاهز، بل إنني قد أذهب إلى القول إن قراءة الرواية دفعتني إلى التفكير بآليات اشتغالها الجمالي؛ أي كيفية أو كيفيات أداء الكاتب للمقولة التي أراد إيصالها ذلك «أن الروايات هي بالأساس آلات مولدة للتأويلات» وفق رأي أمبرتو إيكو. والحقيقة أن أوستر انصرف إلى الاهتمام بتجديد الشكل الفني، بالإضافة إلى احتفائه بالخيال المولد للعمل الفني البادي على شكل أسئلة وقلق ومكاشفة صادمة. وإذا توقفنا عند معنى «التغريب» عند الشكلانيين الروس، فهو يعني إخراج الشيء من «متوالية الحياة» إلى «متوالية الفن» حسب تعبيرهم. بعبارة أخرى تغريب الشيء يعني إخراج الأشخاص والأحداث والمشاهد والمكان، إلخ، من حيز الوجود إلى فضاءات الفن.

صحيح أن أوستر اعتمد على السرد الذي يوحي بأنه ينتمي إلى الواقع، لكن عمله في الحقيقة بدأ وانتهى ضمن دائرة الفن؛ لأنه عالج آليات المعالجة الفنية لشخصيات الرواية وعالمها الخيالي الدال، وكأن أوستر حين جعل شخصياته في الرواية تخرج من عالمها الخيالي، وتدخل حجرة بلانك لتحاوره وتحاسبه، لأنه اقتحم عالمها الجواني، وكلفها بمهمات صعبة أراد أن يقول لنا: لا يوجد شيء ثابت في الفن، فكل شيء قابل للشك والافتراض وإعادة التشكل. ومن الضروري كذلك أن نتوقف عند سؤال الكتابة الثاني وهو: لمن نكتب؟ مما لا شك فيه أن الرواية احتفت بالتجريب، وكل عمل تجريبي يشكل تحدياً للقارئ يلاحقه، ويرهقه، ويدعوه إلى مغامرة الفهم المغاير وبالتالي تشكيل الوعي المغاير. ويبدو لنا أن الروائي حين ترك مساحات فارغة وأسئلة مُعلقة في روايته حرض القارئ على ملء الفراغات، وتقديم إجابات لا تعد نهائية لكنها ممكنة، هنا يأتي دور القراءة المكملة لما لم يُفصح عنه الكاتب بصورة مباشرة، أو لما تركه من مساحات صمت وفراغ يملؤها القارئ وفق ثقافته ورؤاه، وما يمليه عليه سياق الأحداث في الرواية. وهكذا تصبح مهمة القراءة «أن تقول في الأخير ما كان منطوقاً به بصمت هناك» وفق رأي ميشيل فوكو، وأن تبني وعياً جديداً لقارئ يقظٍ يدرك أن مكونات النص الروائي لا تنتهي مع انتهاء السرد، بل تبقى في صيرورة لا تتوقف. وفي الحق أن أمثال هذه الأعمال لا تلائم القارئ الكسول الذي يبتعد عن كل نص يستفزه ويقلقه. وباختصار نقول: إن الرواية اهتمت بأمرين يسيران على خطين متوازيين؛ الأمر الأول: الاشتغال على آليات الكتابة السردية، وجماليات النص المختلف.

الأمر الثاني: جمالية القراءة، لأن الرواية موجهة إلى قارئ حصيف يُعد نفسه جزءاً من العملية الإبداعية، حين يسد الثغرات التي تركها الروائي، ويعيد إنتاج النص من جديد. أما سؤال الكتابة الثالث فهو: لماذا نكتب؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي ألا يفوتنا الحديث عن طرفي الصراع في الرواية: الطرفِ الأول هو الشخصيات الروائية المتخيلة التي لا تستطيع أن تقرر حياتها، أو تملكها، بل تتحرك وفق مشيئة الراوي، والطرف الثاني: هو الراوي/السارد الذي جعله أوستر قناعاً يعبر من خلاله عن رؤيته للعملية الإبداعية؛ فهو يرى أن الشخصيات الروائية يُكتَب لها الخلود لأنها ستُروى بعد موت مبدعها. وهذا ما أشار إليه الراوي/السارد في النهاية الصادمة والمفاجئة للرواية، حين أخبرنا أن السيد بلانك لن يموت أبداً، رغم تلقيه للعلاج ووجوده في حجرة مقفلة؛ لأنه أصبح شخصية مُتَخيلة وجزءاً من الحكاية التي يرويها الراوي/السارد: «لكن التناقض هو أننا، نحن، الأخيلة الملفقة لعقل آخر، سوف نعيش أكثر من العقل الذي ابتدعنا إذ ما نُرمى في العالم، حتى نواصل العيش إلى الأبد، وقصصنا تُروى دوماً، حتى بعد موتنا «. بهذا التصور تكون الكتابة ـ كما رآها أوستر- انتصاراً على وجودنا الواهي الزائل؛ لأنها طائر الفينيق الذي سيُبعَث للحياة من جديد حتى بعد انتهاء حياتنا. من كل ما تقدم ندرك أن الشخصيات تتبادل الإضاءة على مسرح السرد، تصير نصاً خالداً لا يموت حتى بعد موت مبدعها. ومن المهم الإشارة في هذا المجال إلى أن أحد أهم أبطال الرواية كان الراوي السارد. صحيح أن أحادية الراوي صبغت الرواية بأسلوب المؤلف، ومنعت الشخصياتِ التعبيرَ عن نفسها بطلاقة، لكنها أبرزت دور الراوي العارف كل شيء والمُمسِك خيوطَ اللعبة ومصائر الشخصيات، وهو كما أشرنا آنفاً قناع لصوت المؤلف الذي يفكر في ما يرويه، ويستدعي قارئاً يشاركه أفكارَه. وأوضح ما يلفت القارئ في الرواية الشعور بأنها مكتوبة مباشرة باللغة العربية، لأن سامر أبو هواش استطاع، أن يبعث حياةً جديدةً في الرواية حين ترجمها إلى العربية بلغة سلسة قوية مُعبرة.

كاتبة سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي