رواية «الكآبة I-II» لجون فوس: رحلة في أعماق الذات البشرية

2023-12-17

مولود بن زادي

شهدت العقود الأخيرة إقبالا متزايدا للقراء على مؤلفات السيرة الذاتية وهو ما أكده مؤخرا تقرير مؤسسة «نيلسون بوكسكان أستراليا» مزود بيانات صناعة النشر والإعلام، الذي أشار إلى أنّ «شهيتنا للمذكرات تضاعفت في العقدين الماضيين». ينطبق ذلك على رواية «الكآبة I-II» للروائي والكاتب المسرحي النرويجي الفائز بجائزة نوبل للآداب 2023، التي فتحت شهية القراء المتعطشين لهذا الصنف من الروايات باستنادها إلى سيرةِ شخصيةٍ تاريخيةٍ شهيرة. ففي هذه الرواية المؤلفة من جزءين، يستلهم المؤلّف أفكاره من حياة رسام مناظر طبيعية عاش في القرن التاسع عشر. يرحل جون فوس بالقراء إلى الماضي ويغوص بهم في أعماق نفس الفنان النرويجي، مبرزا ما يجول في خاطره من أفكار وأحاسيس وهواجس، مستكشفا اضطراب العقل البشري.

مزج الواقعي بالمتخيّل

تدور أحداث «الكآبة I-II» حول الرسام النرويجي لارس هيرترفيج، الذي عاش في القرن الـ19. لم يحظ هيرترفيج أثناء حياته بنجاح أو شهرة أو مال، فقد صارع الرجل لأجل الحياة والوجود في عالم الفن. وكما لو أن هذا لم يكن كافيا، عانى في وقت لاحق من اضطرابات عقلية أدخلته مصحة غوستاد بالقرب من كريستيانيا (المعروفة حاليا باسم أوسلو) في 5 أبريل/نيسان 1856، وعانى من عزلة اجتماعية وتوفي في ظروف غامضة، لم يلق حظه من الشهرة إلا بعد رحيله في عام 1902، حيث أخذت لوحاته تشد الأنظار وتثير الاهتمام والإشادة. وها هو لارس هيرترفيج اليوم يعد أحد أعظم الفنانين النرويجيين في منتصف القرن التاسع عشر، وها هي لوحاته تحطم أرقاما قياسية في الأسواق، فقد بيعت لوحته الشهيرة المعروفة باسم «كفيلد» بمبلغ 787510 دولارات في مزاد عام 2008!

يَنْفذُ جون فوس من خلال رواية «الكآبة I-II» إلى العالم اللامرئي لشخصية هيرترفيج، فيصوّر أطيافها ودواخلها، ويعبّر عن أحاسيسها وعواطفها، ويعرض تجربها وهمومها. ونراه يتحدث نيابة عن هيرترفيج، ما يُشعر القراء، كما لو أنه قد عاد إلى الحياة ليحط بينهم قادما من الماضي البعيد. يعرّفهم بنفسه، ويطلعهم على حاله، «أنا رسام المناظر الطبيعية لارس هيرترفيج، تلميذ هانز جود نفسه، تكونت في أكاديمية الفنون في دوسلدورف. أنا فنان، أنا رسام».

وإن كانت الرواية تندرج ضمن أدب السيرة الذاتية وتستند إلى حياة شخص عاش في الماضي، إلا أنها لا تركّز كثيرا على مسار حياته، وإنما على باطنه. ينسج المؤلف وقائع القصة من خلال سرد تاريخي يمزج المكوّن الواقعي والمكوّن الروائي بمهارة، حتى أنه يستعصي علينا تبين الخط الفاصل بين الواقع والخيال. نراه يدمج عناصر الواقعية والسياق التاريخي، مركّزا بشكل خاص على خبايا النفس البشرية والإشكاليات الوجودية التي تفرض نفسها على حياة الإنسان، فحتى إن كانت القصة تتناول أحداثًا تاريخية إلاّ أنها تعرضها من وجهة نظر أكثر فلسفية.

أسلوب يطبعه الترميز والتكرار

اللافت للانتباه في أدب الكاتب النرويجي جون فوس انفراده بأسلوب سهل ممتنع يميّزه عن كتاب عصره، فإن أخذت مقتطفات من رواياته ودمجتها في نصوص كُتاب آخرين، استطعنا بلا عناء أن نميزها عن غيرها، وهي سمة نادرة في عصرنا. رواياته قصائد نثرية، يصوغها بلغة شعرية، وإيقاع موسيقي عذب يرقى بها إلى درجة جمالية الشعر. ما نلمسه في روايات جون فوس بشكل عام ورواية «الكآبة I-II» بشكل خاص براعته في استخدام تقنية المونولوج الداخلي، يعبّر من خلاله عن التأزم النفسي والشعور بالضياع والحزن المرير، وغير ذلك من المشاعر النفسية المضطربة والهواجس الذهنية القلقة التي تشهدها الشخصية. ما يميّز أعمال جون فوس أيضا – ونلمسه في رواية «الكآبة I-II» – هيمنة الجملة القصيرة والتكرار على الصياغة السردية. جمله تبدو قصيرة تتخللها ألفاظ بسيطة متداولة، لكن رغم بساطة اللغة الظاهرية، إلا أنها تحمل في طياتها عناصر رمزية مُجردة تُضفي على معانيها تعقيدا وغموضا. نسجّل أيضا تواتر التكرار، حيث تتردد هذه الظاهرة في كل صفحات الرواية، ويبدو التكرار مفرطا في بعضها، ولإدراك مدى استفحال ظاهرة التكرار هذه، نذكر على سبيل المثال كلمة «طلاء» التي تكرر ذكرُها ألف مرة في كتاب يقع في نحو 220 صفحة. وتكررت كلمة «اجلس» ​​27 مرة في ثلاث صفحات متتالية، وتكرر اسم «هيلين» 35 مرة في الصفحات الثلاث الأولى، وتكررت كلمة «ضوء» 15 مرة في صفحة واحدة. وفي الجزء الثاني من الكآبة تكررت «طيور النورس» 60 مرة في صفحتين متتاليتين. التكرار المستمر في الرواية يستطيع أن يؤثر سلبا في القارئ المتعطش لقراءة روايات أسرع وتيرة بحبكة مشوقة في عصر السرعة، لكن، لا بد من أن نشير إلى أن تقنية التكرار التي يعتمد عليها جون فوس تخدم أغراضا متعددة. إذ تعين على تماسك أجزاء القصة، وتعزيز دلالات النص الرمزية التي يعبر من خلالها المؤلف عن رؤاه وتصوراته بجمل قصيرة وبإيقاع جذاب وموسيقى مميزة. ما يميز فوس أيضا نزعته إلى الكتابة بلغة شعرية يكتنفها الغموض، مما يجعل القراء يفسرون كلماته بأشكال مختلفة. فهو بذلك ينفرد عن غيره بترك فجوات قصدا، ودعوته القراء إلى التشكيك في الواقع الذي يصوره السرد وحثهم على ملء الفراغات بخيالهم الخاص.

يوظف شخصيات غامضة

النفس البشرية أشبه ببحر مضطرب تتلاطم في عرضه أمواج العواطف والهواجس والانفعالات. تلك هي حال شخصيات فوس في «رواية «الكآبة I-II» التي يغلب عليها طابع التعقيد والحساسية والعواطف العميقة والصراعات الداخلية. ينطبق ذلك بامتياز على بطل الرواية هيرترفيج الذي نشأ في كنف عائلة نرويجية فقيرة ثم انتقل إلى دوسلدورف للدراسة في أكاديمية الفنون، حيث كان ينتظره اختبار صعب أمام أستاذه هانز جود، قد يحدد مصيره الفني. يبدو مضطربا تتصادم في خاطره أمواج الهواجس. ينتابه الشك حينا، «اليوم لا احتمل لقاء هانز جود. فماذا لو لم تعجب هانز جود الصورة التي أرسمها، ماذا لو اعتقد أنها سيئة، وسيئة بشكل محرج، وماذا لو جعله ذلك يعتقد أنني لا أستطيع الرسم بعد كل شيء». وتغمره الثقة بالنفس أحيانا، «لا أريد أن أرى هانز جود لأني أستطيع أن أرسم… لا أحد يستطيع أن يرسم مثلي، عدا جود». بعد صراع داخلي طويل وعذاب مرير، يقرر التخلي عن الالتحاق بالأكاديمية، خوفا من الإخفاق والتعرض للإذلال. يختار بدلاً من ذلك سبيل المغامرة فيقصد ملاذ الفنانين، المعروف باسم مالكاستن، حيث يجتمع الرسامون للشرب والدردشة. يصوّر فوس ببراعة ضعف الشخصيات ـ وبالتالي ضعف النفس البشرية – من خلال المونولوج الذي يعرض لمحات عن أفكارهم ورغباتهم وميولهم الداخلية. وغالبا ما يقدم شخصيات لها هويات غامضة، أو غير محددة عن قصد. قد تُترك خلفياتها وعلاقاتها ونواياها غامضة قصدا، ما يحفّز القراء على السعي للتفسير وملء التفاصيل المفقودة. يتجسّد الغموض على سبيل المثال في شخصية هيلين، وهي فتاة يلتقي بها في المنزل الذي يقيم فيه، ويَهوَس بها جنسيا، لكنه لا يدرك مشاعرها ونواياها تجاهه. لشدة هوسه بها ـ وهوسه بلغة التكرار – يتردد اسم «هيلين» في هذا العمل 760 مرة!

السياق العاطفي

يرحل فوس من خلال روايته إلى أعماق ذوات شخصياته ويغوص في دواخل نفوسها مستكشفا أفكارها العميقة ومشاعرها الدفينة، مركّزا على جانب «الكآبة» بحكم أنها الموضوع الرئيس والركيزة الأساسية التي بني عليها هذا النص الروائي، وقد أثبت الكاتب من خلال تقنية السرد المونولوجي على قدرة فائقة على تصوير ما ينتاب النفس البشرية من حزن عميق ووحدة وعزلة اجتماعية وضياع وغير ذلك من المشاعر الهدامة، التي تستطيع أن تؤثر في الإنسان. ونجح فوس بعناية في رسم عالم جميل وكئيب في الوقت ذاته، تتشابك في أجوائه ثيمات الحب والكراهية، والنجاح والخسارة، والشوق واليأس، ما يدعو القراء إلى الغوص في دواخلهم والنظر في تجاربهم مع الكآبة، وتأمل قضايا وجودية، والتساؤل عما يكمن وراء الحالة الإنسانية. وهكذا يرحل فوس بالقراء إلى العالم الداخلي للبطل الذي تتشابك فيه الأفكار والتأملات والهواجس. ومن خلال هذه الرحلة، يلتقط فوس بمهارة الفروق الدقيقة التي تطبع المشاعر الإنسانية، راسما صورة حية للطبيعة المعقدة والمتناقضة في كثير من الأحيان لحياتنا الداخلية. من جهة أخرى، يستكشف الكتاب البعد العاطفي بتأمل العلاقات البشرية وتعقيدات الروابط الإنسانية والعواطف التي يمكن أن تنشأ داخلها وعرض صورة دقيقة للأفراح والأتراح التي تصاحب هذه العلاقات.

جمالية عميقة بإيقاع بطيء

رواية «الكآبة I-II» لا تندرج ضمن فئة الروايات المشوقة التي تنقل القراء من عالم الواقع إلى عوالم مثيرة كعالم هاري بوتر الساحر، الذي أبدع في صنعه خيال ج.ك. رولينغ، أو عوالم روايات عبد الرزاق غورناه التي تطبعها القوة السردية وتشابك الأحداث وكثافتها. فمن سمات رواية «الكآبة I-II» غياب الحبكة القصصية التقليدية والافتقار إلى أحداث مهمة أو تقدم يذكر وهيمنة المنهاج المونولوجي، فضلا عن الأسلوب السردي المتكرر الذي نلمحه من بداية الرواية إلى نهايتها، ما يجعلنا نقول بكل ثقة إنّ أقساما كبيرة من هذه الرواية يمكن اختصارها في بضع صفحات فحسب. قد ينفّر هذا الأسلوب فئة من القراء الشغوفين بقراءة مؤلفات مفعمة بالأحداث المتسلسلة المتسارعة والحركة والإثارة والتشويق، لكنّ ذلك لا ينقص من أهميتها لأنها تحمل صفات تؤهلها للارتقاء إلى منزلة الأعمال الرائدة الخالدة. فإن كانت تفتقر إلى حبكة قوية، فإنها مشحونة بالعواطف والهواجس التي تغمر حياتنا اليومية، فضلا عن أنها مزج فريد لتجارب الحياة الواقعية والعناصر الخيالية، وغوص عميق في أعماق النفس البشرية ووصف دقيق للحالة الإنسانية، وهي بذلك تحفة فنية بديعة، وشهادة رائعة على موهبة جون فوس الفريدة وبراعته الاستثنائية في وصف المشاعر وتصوير النفس البشرية، وشهادة على تألق فوس العالمي مؤلفا وكاتبا مسرحيا.

كاتب جزائري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي