أبراهام ملتسر.. صناعة أوروبية تسمّى معاداة السامية

2023-12-30

أحمد مأمون

محيّرٌ أمر كتاب "صنع معاداة السامية: أو تحريم نقد إسرائيل"، فمِن الصعب وصف مقعده ضمن دراسات معاداة السامية والهولوكوست، فهو عمل صحافي وأكاديمي، سيرة ذاتية وسيرة جماعية، صرخة سياسية من يهودي من أصول ألمانية، كتاب يكنّ العداء المطلق للصهيونية، ولكنّه مع وجود "إسرائيل" (وهذا أحد أوجه شطط المؤلّف)، يكره استغلال "إسرائيل" والحركة الصهيونية الأقصى للهولوكوست ومعاداة السامية، وهو ناقد حادّ للتاريخ الأوروبي المسيحي، ومدافع مستميت عن العرب والتاريخ الإسلامي في علاقة كليهما باليهود.

صدر هذا الكتاب عام 2017 بالألمانية، وعام 2022 بالعربية عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بترجمة سمية خضر. مؤلّفُه، أبراهام ملتسر، أبحر مع عائلته، وهو لا يزال طفلاً، من ولاية ترييستي إلى شواطئ حيفا في 10-11 أيار/ مايو 1948، أي في الأيام التي وقعت فيها فلسطين بأيدي العصابات الصهيونية، وأُعلن "استقلال" الكيان بعدها بأربعة أيام.

درس ملتسر في المدارس الصهيونية، وتربّى على "أنّ هؤلاء الناس (الفلسطينيين) أعداؤنا، لذا يجب علينا احتقارهم وكرههم، على الرغم من أنّهم لم يقوموا بأي عمل يسيء إلينا". نشأ في "إسرائيل" معتزًّاً بكونه يهودياً، والتحق بالمعسكرات الشبابية اليهودية فيها، ثمّ في ألمانيا لاحقاً في بداية عودته، ولكن والده كان يبحث عن فرصة لمغادرة "إسرائيل"، بعد عملية السرقة في فلسطين، فعلى حدّ قول والده في مذكّراته، فإنّ كلّ ما في "إسرائيل" يذكّره بالفترة قبيل سيطرة النازيّين على الحكم: من مظاهر حدّة صعود القومية، إلى الرايات الكثيرة المنتشرة، إلى الطاعة العمياء، وانتشار بروباغندا أنّ العالم كلّه يكره اليهود. من هنا، استنكر والد أبراهام مشاركة ابنه في تلك الحركات الشبابية شبه العسكرية، حيث كان يهمس أحياناً: "شبيبة هتلر أيضاً لا يختلفون عن شبيبة الصهيونية".

يتتبّع أبراهام ملتسر، في هذا الكتاب، عدداً من القضايا المتعلّقة بمعاداة السامية، فيرجع إلى أصل المفهوم وسياقه التاريخي، وصولاً إلى المحرقة وما لحقها داخل الفضاء الأوروبي والألماني على وجه الخصوص، ويحاول رصد سعي "إسرائيل" إلى ربط معاداة السامية بأي نقد موجَّه لها وللحركة الصهيونية لإعاقة الإعلام الأوروبي والدولة والمجتمع الألمانيين عن نقد السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، حتى لا يُعتبَر ذلك معاداة للسامية.

يحيلنا كذلك إلى ظاهرة محبّي السامية غربياً، ويوجّه نقداً لاذعاً لـ"المجلس المركزي لليهود" في ألمانيا الذي يدفع باتجاه منع، بل تحريم، نقد كيان استعمار استيطاني قائم في فلسطين. ويخصّص الباحث كذلك مساحة لمسألة مهمّة في طور النشوء، حول ادّعاء السياسيّين والإعلام الألماني أنّ هناك ظاهرة معاداة سامية تظهر في ألمانيا خلال السنوات الأخيرة، متعلّقة بوجود اللاجئين العرب والسوريّين على وجه الخصوص، ويوجّه نقده (الضعيف) لتلك الاتهامات الموجَّهة للعرب، ويطلق مقولة مهمة في هذا الصدد، وهي أنّ معاداة العرب لليهود لا تتعلّق بوصفهم إثنية يهودية، كما يتعامل معها الفضاء المسيحي الأوروبي، بل إنّ هذه المعاداة قادمة من طبيعة الصراع القائم في المنطقة العربية واستعمار "إسرائيل" لفلسطين ليس إلّا، بل إنّ العرب لم يكونوا في يوم من الأيام معادين لليهود، وإنّ اليهود في كلّ العصور لم يتعرّضوا للاضطهاد من قبل العرب، كما تعرّضوا له في أوروبا، وإنّه في الوقت الذي قامت فيه محاكم التفتيش ضدّ المسلمين واليهود على السواء، احتضنهم العرب المسلمون في ظلّ الحكم العثماني.

تعبير "معاداة السامية" وردَ أوّل مرّة عام 1865 في "معجم الدولة روتيك فلْكيشن"، وكان المصطلح، حين صُكّ أوّل مرّة، مدعاة للتفاخر الشخصي في أوساط الأكاديميين والمثقّفين، وأخذ يشكّل تكتّلات سياسية مع دعوات الصحافي الألماني فيلهلم مار، مؤلّف كتاب "انتصار اليهودية على الألمانية"، في عام 1879، وعرّف اليهود بأنهم "غرباء شرقيون" ينتسبون إلى "عرق سامي"، وقارنهم بـ"الطفيليات". في العام التالي، دعا مار إلى تشكيل "حركة برلين" و"عريضة مُعادي السامية" طالب فيها مستشار الرايخ آنذاك، أوتو فون بسمارك، بسحب قانون المساواة القانونية المتعلّق بالمواطنين اليهود في الرايخ الألماني. ومنذ ذلك الحين، غدا تعبير "معاداة السامية" عموماً يشير إلى موقف الموقّعين على العريضة وأتباع مار.

كراهية اليهود قديمة جدّاً في الثقافة المسيحية، أساسها كره الكنيسة لهم؛ إذ تشكِّل اليهودية كدين خصماً لها، فهي تعدّه أكبر خطر على فكرة الخلاص لديها، وعليه يقول ملتسر: "إنّ معاداة اليهودية هي جزء لا يتجزّأ من الثقافة الغربية، وتعود إلى قرون عدّة"، وكان على اليهود في حينه لكي يُقبلوا في هذه المجتمعات أن يتحوّلوا إلى المسيحية. لاحظ، نتحدّث هنا عن النصف الثاني من القرن التاسع عشر وليس القرون الوسطى ومحاكم التفتيش، وبحسب هاينرش هاينه أصبح اعتناق اليهود المسيحية "تذكرة دخول إلى الثقافة الأوروبية".

ووفق ملتسر، فإنّ "كراهية اليهود العنصرية منذ منتصف القرن التاسع عشر أخذت بالانتشار، وبات حتى اعتناق اليهود للمسيحية لا يشكِّل أي ضمان للتخلّص من هذه الكراهية. والحال أنّه كان بإمكانهم الهروب من هذه الكراهية بتغيير دينهم، بيد أنهم لم يستطيعوا الانسلاخ عن جلدهم. وهكذا تحوّلت كراهية اليهود الدينية إلى أشكال جديدة من معاداة السامية العنصرية، وأخذت في التزايد على مدار مئة عام حتى وصلت إلى ما شهدناه في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي. لقد أدّت النظرية العِرقية في النهاية إلى جريمة شنعاء في ظلّ الحضارة الحديثة، وبسببها قُتل ستّة ملايين يهودي، ولماذا؟ لأنهم كانوا يهوداً فحسب".

ويستعجب ملتسر الحالة الهستيرية المنتشرة حول نظريات العرق وصفائه في أوروبا، ويتساءل: "هل يمكن حقّاً أن يكون من سخرية التاريخ أن تنشأ نظريات مثل 'العرق النقي' أو فكرة 'العرق الآري النقي' في وسط أوروبا، الذي شهد كثيراً من ظواهر اختلاط شعوب عديدة على مدار مئات وآلاف السنين؟ في الحقيقة، أدّت هذه العقيدة المجنونة إلى القتل الجماعي لملايين البشر من يهود وغجر وروس وأوكرانيين وغيرهم، باعتبارهم شعوباً ذات قيمة وضيعة".

يظهر هنا أن الباحث يتعامل مع الظاهرة بروح اليهودي الناقم والكاره لهذا التاريخ الأوروبي دون أدنى محاولة لسرد وفهم تركيبات تعقيد ظاهرة الهولوكوست، متجنّباً فهم الحالة في سياق صناعة الدولة - الأمّة النقيّة في أوروبا، فعالم الأنثروبولوجيا النمساوي ماتي بنزل، يجد أنّ اختراع معاداة السامية في أواخر القرن التاسع عشر "تمّ من أجل مراقبة الدولة الأمّة النقيّة عرقياً"، في حين يتجنّب ملتسر الدخول في تفسيرات حول لقاء أفكار الهندسات الاجتماعية الناجمة عن نظرية التطوّر وأصل الأنواع مع المنظومة البيروقراطية، وهذا كلّه في سياقه الأوسع، سياق عملية التحديث، ودينها الهوية العرقية، كما وصفته حنة أرندت.

وعلى حدّ وصف عزمي بشارة وزيغمونت باومان، فإن لقاء البيروقراطية مع الهندسة الاجتماعية (القائمة على الصفاء) وخلق هويات نقية يجعل من عملية تطهير البشر والإبادة تشبه عمل البستنة، أي عمل البستاني في تنظيف الحديقة من الأعشاب الضارّة والعناصر غير السليمة، واليهود في ذلك السياق اعتُبروا كذلك، أي إنّه لا يمكن دمجهم لأسباب وراثية متعلّقة بالعِرق والدم. ذلك كلّه عدا عن عدم تحفّظه على رقم 6 ملايين تمّت إبادتهم في ألمانيا، فهو تبنٍّ تام للسردية الصهيونية، ولكنه سجال طويل كُتب فيه الكثير وما زال.

هناك مسألة قليلاً ما يجري التنبيه إليها، لا نعلم مدى دقّتها ولكن يمكن التفكير فيها، تتعلّق بالادّعاءات القادمة من أبراهام ملتسر والباحثين الآخرين حول المنادي بصفاء الأعراق والدماء في أوروبا في حينه، أليس اليهود هم ذاتهم من أسّسوا لفكرة الجنس اليهودي في نهايات القرن التاسع عشر، مع تأسيس الحركة الصهيونية، أي في السياق ذاته الذي بدأت تشتعل فيه هذه النظريات في الغرب حول المسألة نفسها. هذا اللوم على الألمان والأوروبيّين المتعلّق بالجنس اليهودي، والذي قاد الى المحرقة، هو صهيوني في أصله، وسابق على المحرقة بعقود، فهم ساهموا أيضاً في عملية فسخ اليهود عن الهويات الأوروبية الناشئة مع الدولة - الأمة.

باحث من فلسطين

بطاقة

أبراهام ملتسر كاتبٌ وناشرٌ ألماني من مواليد سمرقند في أوزبكستان عام 1945. له العديد من الكتابات باللغة الألمانية، والتي يتمحور كثير منها حول نقد سياسات الاحتلال والاستيطان الإسرائيلية في فلسطين. قبل "صنع معاداة السامية" الصادر في 2017، صدر له كتابان: "الألمان واليهود: مشكلة غير قابلة للحلّ" (1966)، و"إسرائيل في محاكَمة: مقالات يهودي مناهض للصهيونية" (2015).








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي