وجوه تحتضر

2024-01-24

ثائر دوري

لقد أكله داء السكري…

التهمه قطعة قطعة. لم يبق من ذلك الرجل ضخم الجثة سوى اسمه وشاربه الضخم، الذي كان سبب شهرته ذات يوم. يغفو أمام بسطة الدخان المهرب، الذي يبيعه في ساحة العاصي مركز مدينة حماة، رغم كل الضجيج المحيط به.

إنه السكري..

ذهب بسمعه مثلما ذهب بجسده الضخم وبعد قليل سيُطفأ ما تبقى من بصره، وحده شاربه نجا من المجزرة التي ارتكبها التقدم بالعمر وداء السكري. هزه أحد أصدقائه القدامى كي يوقظه:

أبو عماد..

رفع الرجل رأسه بتثاقل ونظر إلى الرجل لكنه رأى ملامح غائمة. قال:

المارلبورو بخمسين ليرة والبول مول بأربعين..

اشترى الرجل علبة سجائر وغادر وهو يضرب كفاً بكف متحسراً على ما يفعله الزمان بالبشر:

تخيل لم يعرفني!

قال مخاطبا ابنه. سأل الابن:

أبي أنت لا تدخن، لم اشتريت علبة الدخان؟

رد الأب:

لأنه كان صديقي.

غفا أبو عماد من جديد وارتسم على وجهه طيف ابتسامة. لا بد أن طيف ناهد يسري يمر به.

كان يعمل سائقاً لباص نقل داخلي.. وكانت حركة السير تتعطل كلما مرّ بساحة العاصي، إذ يتوقف السائقون والمارة ليتفرجوا على شاربه الضخم، ولأنه يدرك نجوميته كان يتمهل فيتوقف زمناً إضافياً في موقف ساحة العاصي، أمام مطعم علي بابا، كي يمنح أكبر عدد من المعجبين فرصة مشاهدة شاربه الضخم. وفي إحدى المرات شاهده مخرج فيلم «امرأة من نار» الذي كان يجلس مع فريق فيلمه في أحد مطاعم ساحة العاصي فلفت نظره الشارب الضخم. فقرر على الفور إشراكه في الفيلم.

أعرف انك ستسأل من اشترك بالفيلم، الشارب أم أبو عماد؟ سأرد على سؤالك بسؤال، هل يمكن للشارب أن يشترك وحده؟ من البديهي أن يذهب الشارب مع صاحبه إلى الفيلم، الذي تم تصويره في عدة مدن عربية، وفي استنبول أيضاً. أسند المخرج لصاحب الشارب دور رئيس العصابة. دوره لم يكن ضخماً كما تتخيل. في هذا الفيلم قتلوا رئيس العصابة بعد مطاردة لمدة دقيقة في أزقة حماة القديمة، ثم يمثل مدة دقيقة أخرى بدور جثة يجب التخلص منها.

تم التصوير في قصر العظم، المتحف الوطني، أما ناهد يسري بطلة الفيلم، فقد كانت حقاً امرأة من نار. فقد بصق أحد عمال المتحف عندما رآها شبه عارية وهي تبدل ملابسها. ثم قال:

هل هذه امرأة والتي عندي في البيت امرأة؟

وأقسم أن يشتري شرشورا* لزوجته وينزلها إلى سوق العتالين* كي تعمل هناك لأن هذا ما تصلح له مقارنة بناهد يسري.

مرت ناهد يسري، التي ترتدي شورتاً قصيراً، فوق أبي عماد الممدد على الأرض كجثة ففتح عينيه لا لينادي على الدخان كحالته اليوم، بل ليرى ساقيها المسبوكين كعمودي رخام وهي تمر فوقه. صرخ به المخرج أن يُغلق عينيه. ثم أمر بإعادة تصوير المشهد. أعادوا التصوير لكن أبا عماد فتح عينيه من جديد عندما مرت ناهد يسري فوقه. أعاد المخرج التصوير للمرة الثالثة والرابعة وفي كل مرة كان يحصل على النتيجة نفسها، وأخيراً استسلم للأمر الواقع فغيّر مسار ناهد يسري. بدل أن تمر فوق الجثة مرت بجانبها.

رمى الأب علبة الدخان على الطاولة بعد أن حدق بها طويلاً، ثم جال ببصره في أرجاء الغرفة فاستقرت عيناه على الساعة القديمة المعطلة المعلقة على الحائط منذ سنوات. صرخ بابنه غاضباً:

لم لم تصلح الساعة؟

رد الشاب:

قال الساعاتي أنها من نوع قديم ولم يعد لها قطع تبديل. سأنزلها من مكانها وأشتري بدلاً عنها أخرى جديدة.

رد الأب بحدة:

اتركها مكانها. منظرها جميل. ألا ترى ما أجمل خشبها وما أجمل زخرفته. هذا النوع من الساعات بات نادراً جداً لأنه مصنوع يدوياً.

ذهب الأب إلى غرفته ليُبدل ملابسه، وذهبت الأم لتُعد الطعام. أما الشاب فقد بقي في حيرة من أمره، يُنّقل بصره بين الساعة القديمة المعطلة المعلقة على الحائط والتي يرفض الأب تبديلها، وعلبة السجائر التي اشتراها والده الذي لا يدخن. كان في ربيع العمر أنى له أن يفهم مشاعر الخريف.. حماة 1992 .

أداة يستخدمها الحمالون بتعليق الأكياس قبل حملها على ظهورهم

العتّال: الحمّال

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي