الخفة والتخلي وطمأنينة القلب

2024-01-26

ناتالي الخوري غريب

أن تشعر بنفسك خفيفا خفيفا، هو أن يمضي بك الموج إلى منازل الريح: لا عناد، ولا استسلام، ربما مشيئة واحدة. متخففا، تمضي رشيقا بإيقاعٍ ينعدم فيه قياس السرعة، فلستَ في سباق مع الزمن، ولا في منافسة مع أحد. الخفة التي تحل بك وكأن أحمالا تخليتَ عنها وعرفت متأخرا أنك لا تحتاجها، وأن جلدك يتحسس منها، هي الخفة عينها التي تحمل سلاما لم تعرفه قبلا، لأنه كان مرهونا بإرضاء الآخرين.

التخفف يزحف إليك تدريجيا من ثقوب الأنا، التي أوهمتك بأنك مسؤول عن رفع حصتك من أثقال هذا العالم! لتعود إلى فطرتك الأولى، ما قبل صورة الآخر عنك، وما يريده منك، بل إلى كينونتك أنت، ماذا تريد من نفسك أنت! ومن الحياة. ما حُفر في الروح، لم يعد حملا، إنما ينقضي حين تنقضي الروح، أما ما حُمل من مشاعر- في فورانها أو سكونها – فتلك يرميها الوعي حين تصبح ثقلا على حاملها، فالوحدة حال الأرواح، والتشظي مصير الثنائيات. التخلي عن الجهات الأربع ـ المتاحة – والاكتفاء بواحدة، تسليم بأن نورا ما يرتسم في الأفق.

الاكتفاء بالقليل بعيدا عن ميزان الكثرة والقلة، هو بداية التخلي، أي المضي في سلم التحرر. ربما يسمونه الزهد في التصوف. الاكتفاء بكلام قليل، ومفردات قليلة، لا تفخيم فيها ولا تعظيم ولا أفعل تفضيل ولا مبالغة. التخلي عما هو لك على أنه للحياة وصيرورتها، والدور لصاحب الدور. لأن الحياة مواسم وفصول. أن لا نمتلك الحياة وأن لا تمتلكنا، هنا جوهر الحرية… من يرسم الطريق؟ ومن يحررها من خطوطها الأولى؟ من يحدد المواقيت؟ من يحدد المناسب في عبارة نيتشه «مت في الوقت المناسب» إذا استبدلناها بـ»اصمت في الوقت المناسب» إلا السياق! فالكلمات تموت أيضا، والأفضل أن يحترم نبضها قبل ذلك، ففي هذا طمأنينة القلب.

قد يكون العيش حياة كاملة في عقدين ربما ثلاثة عقود وربما خمسة وستة وسبعة أو أكثر وبما أقل! وقد يموت المرء في التسعين قبل أن يحياها كاملة. لا معيار لذلك وربما لا اكتفاء! وعينا بذلك معيار. كيف يتشكل؟ بشروط التخلي عند كتابة أولويات العيش. كيف تُكتب؟ على أكثر من لوح، على أكثر من غيمة، بألوان قليلة يتفاوت تمازجها، بهتانا أو قوة، وبريشة واحدة. في العبث تحرر من جدية الهدف، لكنه لا يبطل السعي، فالسعي من قوانين لعبة الحياة، إنما العبث تخفيف من أثقال الاستحقاقات عند تكشف المصائر.

الحبسة محوٌ عند عدم القدرة على الكلام. الصمت تخفف عند من يمتلك أدوات المحو عند المقدرة. المحو هو إعطاء الإمكانات الأخرى مجالا في الظهور والعبور إلى مرمى البصر. المحو تمسك بلا جدوى الكلام حين العيون تبصر، والشمس متوهجة، والمدى لا يختبئ. غواية الأسطر الفارغة تُسقط القلب في الرغبة، والرغبة ثرثرة بلا امتلاء. أما الأسطر الممتلئة فتسقطه في الصمت، لأن التكرار يسلب الكلام رونقه ودهشة وقعه ومعناه. التمسك بكل ما بنيناه وما زلنا نبنيه على قاعدة أنه واجبنا تجاه الحياة، هو أسر بأصفاد من ذهب، فالحذر واجب، لكنه موت تدريجي. المسامحة فعل تخفف مما مضى، لكنه لا يمنعك من أن تعلي سياجك كي لا تفسح مجالا للدب أن يدخل كرمك، والحذر هنا، تأجيل تدريجي أيضا للموت. والتخفف من كليهما أجنحة ولا بأس إن ارتضيتَ المشي على الأرض. فالمشي رقص بمزاج العارفين.

أكاديمية وروائية لبنانية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي