«صورة على جدار قديم» رواية عن شجون السفر والأحلام الضائعة

2024-02-14

كمال القاضي

كثيرة هي قصص الحُب التي تتولد من تجارب السفر والاحتكاك بعوالم وشخصيات بعيدة عن المُحيط الجغرافي الحقيقي لمواطن أبطالها، لكن القليل منها هو ما يستمر ويعيش طويلاً ويأخذ طابعاً تراجيدياً أقرب إلى قصة روميو وجوليت الخالدة.

لقد عرجت بعض الروايات المصرية والعربية على نوازع الحُب والغرام المُلتهبة في عصور وفترات سابقة، لكن ما لبثت هذه الثيمة أن تراجعت واختفت من كتابات الأدباء والروائيين لابتعادها عن اهتمامات القارئ العصري، المشغول بالقضايا الواقعية والأحداث اليومية، فلم يعد مناسباً أن يطرح كاتباً قصة عاطفية في خضم الحروب والمعارك الدائرة على كل الأصعدة، ولو من قبيل الاختلاف أو الهروب.

في رواية «صورة على جدار قديم» الصادرة عن مؤسسة الحسيني الثقافية للكاتب محمد غُزلان، نلحظ أن ثمة تحديا فرضه الكاتب على نفسه ليخرج لنا برواية مُغايرة تدور أحداثها خارج حدود الوطن الإقليمي، حول قصة حُب نشأت بين مُدرس مُصري ومُدرسة جزائرية أثناء فترة إعارته في العاصمة الجزائرية على خلفية ثقافية يكتنفها التفاهم والاتفاق في كثير من وجهات النظر. وعلى الرغم من المُحاولات الأولى الفاشلة التي بذلها بطل الرواية للوصول إلى قلب المحبوبة، إلا أنه نجح في التأثير عليها واقتحام عالمها الشخصي وهي المُتحفظة في سلوكها وردود أفعالها والمُنضبطة في جميع تصرفاتها.

إنها إشارة البدء التي انطلق منها محمد غُزلان لسرد وقائع روايته وأحداثها على نحو مشوق ومُثير، تختلط فيه الأزمنة وتتراوح فيه التواريخ ما بين أحداث جرت بالأمس للبطل الأصلي المتواري خلف حكاية الابن وبين الأحداث الراهنة في تجربة أخرى، يُعيد من خلالها الأب إنتاج قصته الميلودرامية الأولى مع حُبه الكبير، الذي لم يدم طويلاً لأسباب ظل غُزلان يحجبها عن القارئ، حتى اقتراب النهاية ليُحافظ على عنصر المفاجأة كمقوم أساسي من مقومات الانفعال بالحدث والحبكة الدرامية. ولعله نجح بالفعل في تحقيق ما يرنو إليه، إذ طاف طويلاً حول أشياء وتفاصيل رئيسية وفرعية تخص المجتمع الجزائري وثقافته وعاداته وتقاليده، مُمسكاً بقوة بالخيط الرفيع الواصل بين الماضي البائس المرير للبطل الرئيسي، المُتمثل في شخصية الأب المُعار للجزائر وابنه الطبيب المقيم في القاهرة، حيث الاثنان تجمعهما تجربة مُشتركة على مستويات كثيرة اجتماعية وإنسانية وثقافية. غير أن الأحداث المتواترة للرواية المعنونة باسم «صورة على جدار قديم» تشابكت مع شخصيات أخرى حيوية رسم لها المؤلف إطارات ووفر لها مساحات مهمة دفعت إلى التدقيق والمُتابعة كشخصية «فهيمة» التي تكررت مرتين إشارة إلى نموذجين فاعلين في الأحداث، شخصية الحبيبة والزوجة وهي البطلة الرئيسية، وشخصية الابنة التي استحضرها لتكون امتداداً لحُب البطل الذي لا يُريد الكاتب أن يُسقطه، أو يُغيبه عن دوائر الصراع الدرامي العاطفي الإنساني بامتياز. كذلك شخصية هيري أدواج الفتاة الفرنسية صديقة البطلة، التي لعبت دوراً إيجابياً في تقريب المسافات بين الحبيبين، وهي حسب السياق الروائي عنواناً للثقافة الفرنسية التي تأثر بها المجتمع الجزائري، فهي الودودة اللطيفة والنموذج المثالي لسلوك الأفراد الأسوياء من الأجانب، بعيداً عن النزاعات والأطماع السياسية للأنظمة الاستعمارية.

وأيضاً لم يفت محمد غُزلان أن يشير إلى التضاد الثقافي بين البطلين الثانويين، سامي إحدادن والشيخ يوسف، فهما على النقيض من بعضهما على المستوى الفكري، لكنهما مثلا عضداً حقيقياً لشعراوي المدرس القادم عليهما من القاهرة، غير مدعوم من أي جهة وليس لديه أي خبرات سابقة عن الجزائر كعاصمة ومدينة كُبرى، اللهم إلا بعض ما قرأه عنها في كُتب التاريخ. تكشف الرواية أيضاً أجواء السفر والتنزه في العاصمة الفرنسية باريس، فالحبيبان والزوجان قضيا بعض أيامهما الحلوة في تلك المدينة الساحرة، على حد وصف الكاتب، واستمتعا بشوارعها ومقاهيها ومعالمها الأثرية، قوس النصر وبرج إيفل وشارع الشانزليزية والحي اللاتيني.

وهنا تبرز الميول السياحية والنهم إلى المعرفة والمحاولات الدائمة والدؤوبة من جانب صاحب الرواية، فضلاً عن هواية التصوير الفوتغرافي التي تم التركيز عليها باعتبارها مُعادلاً موضوعياً للتسجيل والالتقاط والرغبة في التدوين والاحتفاظ داخل الذاكرة باللحظات الفارقة والاستثنائية ما يذهب بالقارئ إلى الاعتقاد بأن جُل ما وقع من أحداث روائية له صلة وطيدة بالثقافة الشخصية للكاتب، وأن بعضاً مما ورد في متن الرواية من تنويعات ثقافية واجتماعية وسياسية، قد تكون له صله بالتجربة الذاتية، الأمر الذي يُشير إلى إمكانية تقييم التجربة بوصفها مرآة عاكسة لصور وأصداء حالة شخصية عاشها المؤلف أو تمنى أن يعيشها فأسقطها على أبطال روايته.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي