مالكولم X في غزّة

2024-03-05

صبحي حديدي

الإنصاف المبدئي، في حدوده الدنيا ربما، يقتضي إقامة سلسلة من الروابط بين مالكولم X (1925 ـ 1965) داعية الحقوق المدنية الأمريكي الراحل، الذي مرّت ذكرى اغتياله يوم 21 شباط (فبراير)، من جهة أولى؛ وحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، كما تمثّل أيضاً التوحّش الأقصى للطور الأحدث من صهيونية تسير حثيثاً نحو استخلاف الفاشية والأبارتيد، من جهة ثانية.

ثمة، في مستوى أوّل هو الأشدّ أهمية حسب هذه السطور، أنّ انحياز مالكولم X للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، وهو خيار هيمن بقوّة على السنوات الثلاث التي سبقت اغتياله، لم يكن مجرّد استتباع آليّ لاهتدائه إلى الإسلام بقدر ما دخل، على نحو جدلي مدهش بالفعل، في سياق نظرته إلى مسائل الاستعمار، القديم والحديث معاً، من جانب ابتدائي مركزي. الجانب الثاني الذي لم يكن أقلّ أهمية وإنْ كان إلحاحه نسبياً، تمحور حول نظرة مالكولم X إلى الترابط الفعلي، والضروري أيضاً، بين نضالات الشعوب عموماً وفي آسيا وأفريقيا خصوصاً، وحركات السود وتيارات الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.

وهكذا يصحّ أن تُفهم لقاءاته المكثفة مع قادة عرب وعرب/ أفارقة، أمثال جمال عبد الناصر، كوامي نكروما، جوليوس نيريري، إناموي إزيكيوي، أحمد سيكوتوري، جومو كينياتا، وملتون أوبوتي. وكان لافتاً، كما يقول في سيرته الذاتية التي حرّرها صحبة ألكس هيلي (صاحب رواية «الجذور» الشهيرة)، أنه سعى خلال تلك الفترة إلى استقصاء الأسباب التي تجعل الأفارقة يعودون إلى الإسلام، أو الآسيويين إلى الهندوسية والبوذية والإسلام أيضاً؛ معتبراً أنه كما توجهت الحملات الصليبية نحو الشرق، فإنّ «حملات صليبية إسلامية» تتوجه اليوم نحو الغرب. ولم تغب عنه صلات، اعتبرها وثيقة أو حتى مباشرة، بين هذه الظواهر وما ينتهي إليه الاستعمار الجديد اليوم، وبين نضالات السود والأقليات والشعوب منتهَكة الحقوق (وفلسطين في عدادها)، وتيارات العنصرية البيضاء والفلسفات الفاشية والنازية و… الصهيونية.

سيرته تسجّل زيارة إلى القدس سنة 1959 لا تُعرف عنها تفاصيل وافية، ولكنّ مذكراته التي صدرت سنة 1964 بعنوان «مذكرات مالكولم X، الحاج مالك الشباز»، تسرد تفاصيل أوفر عن زيارته إلى قطاع غزّة يوم 5 أيلول (سبتمبر) 1964، حين زار مخيم خان يونس، وصلّى في أحد مساجد المدينة، وزار مستشفى، وعقد مؤتمراً صحافياً في مقرّ البرلمان، واستمع إلى قصيدة من الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد الذي روى له أيضاً كيف أفلح في النجاة من مجزرة خان يونس سنة 1956. وعند عودته إلى القاهرة سوف يلتقي ببعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت قد شُكّلت حديثاً، وفي عدادهم أحمد الشقيري رئيس المنظمة الأوّل؛ كما سيكتب نصّاً فريداً بعنوان «المنطق الصهيوني»، نشرته صحيفة Egyptian Gazette.

وهذا نصّ غير بعيد عن تسجيل النقلة الكبرى الحاسمة في فلسفة تضامن عميقة مع الشعب الفلسطيني سوف تعتنقها تيارات الحقوق المدنية للأفرو – أمريكيين في الولايات المتحدة، وسيتابع ترسيخها أمثال ستوكلي كارمايكل وأنجيلا دافيز، بعد رحيل مالكولم X . هي كذلك تكتسب أهمية خاصة عند وضعها على قدم المساواة إزاء، أو بالأحرى الاختلاف مع، التيار الآخر الرئيسي في الحراك المدني للسود، والذي كان يتزعمه مارتن لوثر كينغ، ولم تكن له مواقف ناقدة من الصهيونية بقدر ما كان قريباً بدرجات متفاوتة مع مجموعات الضغط اليهودية والتيارات الصهيونية على الأرض الأمريكية.

والمقالة تبدأ من رفضٍ (بنبرة تهكم في الواقع) ليقين الصهاينة بأنّ احتلالهم لأرض فلسطين يتطابق مع نبوءات «أنبياء إسرائيل»، إذْ لو كان الأمر كذلك فإنّ تتمة إيمانهم ذاك تقتضي متابعة مهامهم «السماوية» وإحكام السيطرة على الشعوب والأمم الأخرى و»بيد من حديد»؛ وهذا ليس سوى طراز جديد، أكثر عنفاً، من ذاك الذي مارسته وأرسته القوى الاستعمارية الأوروبية السابقة. ينتقل مالكولم X بعد ذلك إلى تشخيص المضمون الرأسمالي للصهاينة الذين أتقنوا «علم الدولارية»، أي التنكر في هيئة صديق يمنح الهبات والعون التقني فيُحكم السيطرة ويرهن المصائر ويعيد إنتاج الاستعمار القديم في صياغات جديدة متنكرة. ومن هنا، يتابع المناضل الحصيف المتيقظ، لا عجب في أنّ أخلص أنصار الصهاينة هي ورثة استعمار الشعوب هنا وهناك في الغرب.

ثمة، تالياً، مستوى التطابق المذهل بدوره بين تشخيص مالكولم X لانحياز وسائل الإعلام في الغرب لصالح القوى الاستعمارية الجديدة والرأسمالية المعاصرة والسرديات الصهيونية على وجه الخصوص، وبين أنساق مماثلة مورست في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وروما، والغالبية الساحقة من العواصم الغربية، لصالح الخطاب الإسرائيلي بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي؛ فضلاً بالطبع، عن الترويج للأكاذيب الفاضحة التي أشاعتها آلة الإعلام الإسرائيلية حول «الفظائع» المنسوبة إلى الفصائل الفلسطينية في مستوطنات غلاف غزّة. وقارئ خطبة مالكولم X، التي أعقبت العملية الإرهابية لتفجير منزله، يقف على توصيف لسقطات الإعلام المنحاز والمشوِّه، لا يكاد يختلف عن الحال الراهنة إلا في كونه أشدّ ابتذالاً واستغفالاً للعقول.

وهكذا فإنّ استعادة مالكولم X في غزّة هذه الأيام لا تنصف الرجل وحده، بقدر ما تمنحه فرصة لإعادة تثمين نضالات أهلها، ولاستظهار حالة من التضامن كانت وتظلّ فريدة ناصعة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي