ضياف البراق… التأمل يحدد قيمة الإنسان

2024-03-07

عاطف محمد عبد المجيد

في كتابه الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بعنوان «النافذة لا تعني شيئاً» ويرى أنه من المقرف أن يسميه كتاباً، ينقل الكاتب ضياف البراق قول سارتر إن شهوة الكتابة تتضمن رفضاً للحياة، ذاكراً أنه من نافذته الخاصة يرى أننا نقتل عصفورين بحجر واحد في الكتابة، إذ يرى الكتابة حجرا نقتل به الحياة والموت في آن معا، ومن هنا ينبعث شعورنا بالخلود.

في نافذته التي لا تعني شيئا، وبلغة تقترب من تخوم الشعر، يُطلعنا البراق على كتابة حقيقية، تحمل آلامه ومعاناته، إلى جانب فلسفته التي اكتسبها من تجاربه في الحياة، والكتابة هنا، كما يرى، يجب أن لا تكون من أجل المجد، بل من أجل الزهرة والغيم والفراشة، داعياً الكتّاب إلى الكتابة بصدق وسلاسة ونزاهة وبلا تكلّف، محذرا من إغراءات الجمهور، لأن هذا لا يستقيم مع جوهر الحرية، داعياً إلى أن نكون أحراراً في القراءة والكتابة، في الحياة والموت. مثلما يؤكد أن قيمة الإنسان يحددها التأمل وحده، متسائلاً هل القراءة هي كل شيء؟ نافيا ذلك مُقرّا بأن التأمل هو الكتاب الذي يحوي كل ذلك، لافتا نظر القارئ إلى أنه ليس بالكتابة وحدها ننتصر على قسوة الحياة، بل أيضا بسحق الخزي من هذه الحياة، بكل ما لدينا من وسائل وأساليب وطاقات وفنون، مخبرا إيانا أنه لا يمزح هنا، وأن أسلوبه في الكتابة ليس سوى صورة حقيقية عنه، وأنه يكتب من قلبه وبكل صدق، وأنه لا يرتدي الأقنعة عندما يكتب، ولا يخالف قناعاته، وأنه لا يُزيف نفسه ولا يخون لغته المتواضعة.

تاريخ المرأة

«النافذة التي لا تعني شيئا» كتاب يشمل عددا من المقالات ذات الموضوعات المتنوعة، التي يربطها خيط الفكر والثقافة والهم الإنساني، وفيه يؤكد البراق أنه لا حياة لمن عاش غير عصره، وأنه ليس هناك تاريخ مشحون بالعذاب كتاريخ المرأة الغارق كله في الألم، ومن الألم يبدأ وفيه ينمو، مشيرا إلى أن المرأة في التاريخ قصة عذاب لا تنتهي، مؤكدا أنه من العبث أن نحاول معرفة أسباب غموض المرأة، لافتا انتباه القارئ إلى أنه بالحب وحده يمكن أن نفهم تقلبات المرأة وتحولاتها وتساؤلاتها.

البراق الذي يرى أن روح الإنسان تبقى مغروسة في مسقط رأسه إلى الأبد، مهما ارتحل إلى بعيد، يقول إن بعض الأصدقاء هم مجرد سجون خانقة، أو أقنعة لا تُحتمل، وبعضهم كنوافذ مفتوحة على البحر، مشيرا إلى جمال الإنسان حين يكون نقيّا من الداخل، فارغا من جميع كوابيس الحياة، ومن الرائع، حسب رؤية الكاتب، أن يقفز الإنسان في الفراغ، أن يخرج من الأقفاص التي تجعله بلا روح، وأن يتطهر من الشهوات والأفكار التي تحيله وحشا أو ظلاما، مثلما يكتب قائلا إن السلطة في العالم العربي لا تترك شيئا جميلا في متناول الناس، ولا قلما نبيلا يعبر بحرية عما يشاء، إنها، أي السلطة، أفعى ضخمة تلتهم رأس كل من يحاول تغييرها، أو على الأقل تهذيبها، خانقة كل صوت يطالبها بحق، وهي مطرقة جهنمية تطحن كل الجماجم المدافعة عن حقوق وحريات الإنسان.

هنا ومع إخباره لنا أن ديوان الشاعر محمد الماغوط «الفرح ليس مهنتي» ديوان فريد وسيبقى يُدهشه حتى إن قرأه ألف مرة، يدعو إلى الكتابة بطهارة وصدق كأنها صلاة في منتهى الحرية والخشوع، معلنا أنه في الحرب إما أن تنتصر الكتابة، وإما أن تندثر، وأن الكتابة الحقيقية هي أصعب تجربة يخوضها الكاتب، مؤكدا أن المهم في كل فن هو الإتقان، والإتقان وحده فن، وأن من يعشق الحياة بالفعل سيزحف إليها، وأن الحب عبارة عن هاوية مفتوحة أمامنا في كل مكان، نقع فيها من حيث لا نريد، وأنه يرعبه أن يتخيل موت الكلمة الجميلة، متسائلا هل كفاح الكلمة أقوى من كفاح السلاح؟ وهل عصرنا الحاضر هو عصر انتصار الكلمة الجميلة؟ أم عصر سقوطها؟ وهل يكفي الكلام الجميل لتحرير فلسطين من أبشع وأعنف احتلال استيطاني عنصري عُرف حتى الآن؟ وهل توجد كلمة في قاموسنا: الوطني العربي أغلى وأهم من فلسطين؟

كل جميل مبهم

صاحب «النافذة التي لا تعني شيئا» الذي ينقل لنا هنا عن الفيلسوف أوشو قوله إن كل ما هو جميل مبهم، يرى أن الحزن ليس النهاية، بل إنه بداية جديدة لحياة أخرى فاشلة، داعيا إلى التشبث بالحزن، لأنه هو الوجود الحقيقي. كما يرى أن حرية الفكر أساس كل تنوير حقيقي، وروح كل ثقافة حقيقية، التنوير الذي يدافع عن شرف الدين وشرف المجتمع وشرف الحياة، ولا ينهض المجتمع الذي يقمع حرية الفكر، إنما يظل يغرق في التفاهة الصارخة، التي تجلب له كل أشكال الجنون والبؤس، مبديا أنه لا يثق أبدا بثقافة غير مبنية على حرية الفكر، وأن الفوقية ضد الفن، وإن دخلت عليه أفسدته، وأن محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين هي ضرب من العبث، وأن الحب فن لا انتهاء له، والفن أن نفعل الشيء بسهولة تامة ولو كان صعبا، والحب لا يقبل حسابات المنطق، ولا يخشى السير فوق الألغام، لكنه يجرف الحياة إلى حيث يريد، وقد يختار الموتَ إذا كان أكثر إثارة منها، والحب يبحث دوما، يقول البراق، عن الإثارة مهما تكن!

أساس الحب

البراق الذي يعلن صراحة أن الحرية هي سلاحه الوحيد في كل المعارك التي يخوضها، ينفي أن يهدر عمره في الصراعات العبثية، خاصة أن الحياة بالنسبة له هي القناعة، ويرفض من يقولون إن الانتحار فكرة جميلة أو عادلة، فمن ينتحر جبان، والحر الحقيقي هو الذي لا يستسلم للعبث ولا ييأس، بل يكافح من أجل الحياة. البراق يؤكد هنا كذلك أن الكاتب الذي يقول إنه لا يحب الشهرة، لا يخاف الموت، يحب كل الأشياء البسيطة، لا يكره أحدا من قلبه، يعشق الجمال دوما، لا يستطيع مفارقة الموسيقى، لا يتعب من الحرية، ينتمي للعالم كله، وإنه ضد التعصب بكل أشكاله، وإنه يعيش على القناعة، وإنه ماضٍ على درب النور حتى الرمق الأخير، فهذا يعني أنك أمام إله ولست أمام شخصٍ من جنسك! في هذه الحياة يحتاج الكاتب فقط إلى حياة خالية من الأقنعة والخساسات والأصوات الفجة والعالية، يحتاج إلى قشة في هذا البحر الهائج المائج على الدوام، مشيرا إلى أن العالم كلما تقدم في خطوات سريعة، ابتعد خطوات عن الحرية الطاهرة، ذاكرا أننا نحتاج لوقت طويل جدّا لكي نفهم الحرية ونعتنقها عن وعي واقتناع. ضياف البراق القروي البسيط، الذي سيعبر العالم كله، لكنه لن يتخلى عن عفويته النقية الغالية، وفلسفته في الحياة: كافح بشرف، وسامح باستمرار، انزع لُغما وازرع وردة، يكتب هنا قائلا إنه لم يُخلَق إلا للحب، سيحب جميع الناس، لكنه لن يعبد أحدا، وسيحب كل شيء، لكنه لن يعبد شيئا، فالحب هو أقسى ما عرف في حياته من عذاب، وحياته كلها قائمة على أساس الحب، وبالحب تجري عواطفه وتطير، وكل كتاباته هي حب في حب، ويؤكد بكل ثقة أنه أقرب كائن إلى الحب وأبعد كائن عن الكراهية، على الأقل في بلد فارغ من حب حقيقي.

كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي