أدب الأمومة: علاقة المرأة بمولودها في واقعٍ لُغويّ

2024-03-13

ملاك أشرف

تتساءل الشاعرة إيمان مرسال، في بداية كتابها النثريّ «كيف تلتئم: عن الأُمومة وأشباحها» عن عدد سنوات تربية الغضب وتطويره تجاه المولود، وعن حال الأُم عندما تشعر أن المولود يُهدد حياتها ونفسها، مُقتبسةً من شِعر الشاعرة البولنديّة آنّا سوير(Anna Swir) حينما كتبت لابنتها حديثة الولادة: «أنتِ لن تهزميني/ لن أكون بيضة لتشرخيها/ في هرولتكِ نحو العالم،/ جسر مشاة تعبرينه في الطريق إلى حياتكِ/أنا سأُدافع عن نفسي..».

ليسَ غريبا أن تكتبَ الشاعرة البولنديّة مثل هذا الشِّعر، فأدب الأُمومة المُستقل والفريد زاخرٌ بالصراعات الغامضة بين الكاتبة أو الشاعرة وطفلها الحديث، وهو مُزدحمٌ بقصص اكتئاب ما بعد الولادة، وحتّى اكتئاب ما بعد الزواج، منذُ إصدار كتاب إليف شافاك «حليب أسود» الذي لاقى رواجا في الميدان الأدبيّ المُعاصر والنسائيّ آنذاك وإلى الآن..

«كيف يمكن أن ندرك أن الأمومة الموسومة بالإيثار والتضحية، تنطوي أيضًا على الأنانيّة وعلى شعور عميق بالذنب.. كيف يمكن أن نراها في بعض أوجهها صراع وجود.. توترا بين ذات وأُخرى، وخبرة اتصال وانفصام تتم في أكثر من عتبة مثل: الولادة والفطام والموت».. قالتها إيمان مرسال من خلال الاستفهام المجازيّ الصريح والألفاظ الصارمة الدافعة إلى الذُّعر!

إن عبء الأمومة وتمزقاتها في المرأة الأديبة أكثر من عبء الأمومة، الذي تعاني منهُ المرأة العادية البعيدة عن حقل الأدب؛ كونها مثالية ودقيقة، لا تستوعب التقصير أوّلا، شغوفة بعملها وحاضرة في عالمها وشؤونه المُعقّدة ثانيا؛ ممّا يصعب السيطرة على الانشغال والواقع الجديد، الّذي يفصلها عن روتينها اللغويّ وتعلقها الأدبيّ الشديد، وإن تمكّنت من إتقان الدورين الأدبيّ والأموميّ معا فما هي إلا أيّام حتّى تعترف بشقاء الفعلين، وتحملها البطيء والضجر للأمرين معا، اللذين ينضحان بالمسؤولية والتعب.

ينبغي للمرأة الكاتبة أن تموت كي يحيا الطفل. فولادة شيء يستلزم موت شيء آخر.. أتذكر جيدًا العبارة، الّتي صفعتني بها إحدى الزميلات، منذُ سنوات طويلة: «مَن يريد شيئا عليه أن يترك شيئا آخرَ في المُقابل.. لا يوجد اختيار لا تدفع أثمانه في الحياة، وإن كانَ يتضمن سعادة بالغة». إذن المأساة تكمن في أن اللحظة، التي يولد فيها إنسان جديد، تتطلب موت كائن آخر، وموت الأوّل السابق شرط لا غنى عنه ليكون للثاني مجال فسيح من الحياة، كما تستحضر الشاعرة مرسال قول جورج باتاي.

تدفع الحياة المرأة المُبدعة والفنانة إلى التشتت بينَ أعزّ جانبيها- التأليفيّ والأموميّ- وتتفاوت درجة التشتت وفقا لشخصيتها، تركيبتها وخبرتها المُكتسبة من العائلة مُسبقا -إذا توفرت طبعا- لكن غالبية القصص الموجودة عن هذا الموضوع، في الأدب الغربيّ والعربيّ، هي قصص تنقل ضياع الجسد في المخاوف والفزع، جراء الحال المُكتئب المُقبل بعد الحمل، كذلك يشمل الوضع القصص الحقيقيّة، الّتي نسمعها مُباشرةً من شفاه الأُم الكاتبة أو الأخريات المقربات منها، وليست الّتي نقرأها بخيالٍ مُضاعف وحسب.

تواجه إيمان مرسال قصّة قصيرة تخصّ إحدى النساء، تشرح رعب الأمومة، بسبب ما تربت عليه وما عاشتهُ في منزلها سابقا، إذ تكتب لنا أنهُ في مقابلة علاجيّة مع طبيبة نفسيّة وأخصائيّة اجتماعيّة، كانت إحداهن تقول إنها تكره والدتها وتحتقرها أكثر من أي شخص في العالم، يقتلها الرعب من مُجرّد ظنّها أن علاقتها بطفلتها قد تصبح مثل علاقتها بأُمها حينذاك.

أعتقد أن أغلب النساء يعانين من الكائن الغريب المولود حديثا، بسبب الوالدين والنشأة المريضة المتأصلة مشاهدها في أذهانهن على الدوام، هذهِ المُعاناة لا تقتصر على المعيشة السيئة غابرا، بل تتجاوزها إلى الحنان المُتدفّق، الذي يجعل الأنثى تسعى إلى التفكير المُفرط في كيفية إعطائه للطفل، مثلما منحته لها الأُم سلفا..

تصف الشاعرة مرحلة ما بعد الولادة بأنها خطوات متواصلة لاختراع الأمومة، من البداية، كأنّها اختبار لا نهاية له للوجود الشخصيّ ذاته، للعلاقة بالجسد ثمَّ للعلاقات بكُلّ ما كان يظن أنهُ الأنا، وهذا وصفٌ دقيق، يصوّر بإيجاز ما يحدث للتكوين الأنثويّ، في أثناء الإنجاب تحديدا.

أؤيد النظرة إلى أن الأدب بشكلٍ عامّ والشِّعر بشكلٍ خاصّ يوجدان حيث لا تكون المرأة أُمًا، حيث توجد هي نفسها، لتجنب النزاع على الوقت والطاقة أو الشعور بالتيه والفشل، وحتّى طمس الهُوية الصانعة بحدّ ذاتها أدب الأمومة المُتناقض، الباعث على التوتر.

أن تقلل المرأة الأمّ من عملها دائمًا هو الشرط الضروريّ للحفاظ على أمومتها والجوّ العائلي الصحي والمتوازن، فضلا عن الوضع الخالي من الأمراض النفسيّة.. كتبت مرسال في كتابها المذكور في الاستهلال أن الموت أرحم من المرض النفسيّ، أنت لا تستطيع أن تملك ذكرى شخص يفقد علاقته بالعالم أمامك، يوما بعد يوم، ثمَّ يعود إليه الهرع أو الاندفاع، الذي يتخيل أنهُ هرب منهُ في الماضيّ.

أنا في صف مَن يقول إن الأشياء لا معنى لها حين لا تمنح الطمأنينة والسلام الداخليّ، إذ الاشتباك العنيف بين الكيان العقلانيّ الأنانيّ، الذي يولّد الأفكار القوية، والكيان العاطفيّ، الذي يولّد الأطفال المُقدسين، لا يُحتمل، ولا يُخلف الصبر المديد حقًّا، وبالتالي فإن الكتابة في هذهِ الموضوعات الأنثويّة الطبيعيّة يمكن أن تُسببَ الإحراج والعار، وحتّى القرف، في المُجتمعات الجاهلة، وعلى وجه الخصوص العربيّة.

تخبرنا الناقدة جاكلين روز بطريقةٍ دراماتيكيّة أن مفهومنا عن ماهية الأمومة معيب، على نحو قاتل. إن العواقب المترتبة على إخلاصنا لهذهِ الرؤية المنحرفة وخيمة، وتتراوح بين الكراهية المنهجية للأمهات العازبات، اللواتي يعاقبن نتيجة عدم مسؤوليتهن الجنسيّة والاجتماعيّة، وتوقع كمال الأمومة والبهجة في مواجهة الواقع الفوضويّ، المتمثل في ولادة الأطفال وتربيتهم.

رُبَّما بالفعل ليسَ هُناك ما هو أكثر مللا من قضاء امرأة ذكية كُلّ وقتها مع طفلٍ صغير. أو ليسَ هُناك عدو أكثر إحباطا للفنّ الجيد من عربة الأطفال في قاعةٍ ما. لابُدَّ من الانتقاء والاكتفاء بالطموح والذكاء، من أجل استبعاد الانزلاق الحياتيّ المؤدي إلى الفخ والتعاسة الأبديّة فيما بعد. أتخيل حالات استثنائية نجحت في فكّ الاشتباك ونجت من الانزلاق، لكن ما يهيمن عليها هي الحالة المُرتعشة المتموجة، التي من غير الممكن إنكارها وتزييف ما يجري فيها من الفوضى قطعًا: إما قرار عدم الإنجاب والتركيز تمامًا في الأعمال الإبداعيّة والثانويّة وتكريس النفس لها، وإما الإنجاب والمشي في دروب عديدة مُنهكة غير مُكتفية، لا خيار ثالث بينهما نتيجة طبيعة الكاتبة المُنعزلة والهادئة لا شكّ.

أتبنى فكرة الأكاديميّة إيلينا مارشيفسكا وأقول إن الأمومة ليست مُشكلة هائلة يجب حلها، بل هي حقيقة يجب أن نعترفَ بها، بوصفها حقيقة تعيق العمل الجيد والبرّاق وتؤخره، لكنها لا تلغيه تمامًا.. إنها تنتج حياة مُزدوجة ملغومة، لا حياة نموذجيّة صافية.

وعلى ما يبدو فإنه لا توجد صيغة واحدة للأمومة والكتابة عنها تُناسبنا جميعًا، كما التوازن الجنوني، الذي يجب على الأمهات العاملات تحقيقه ليظفرن بالنجاح، وهو ما بات حلمًا في المرحلة الراهنة، إنهُ حلم جنوني وليس توازنا جنونيا.

ملحوظة: تستند هذهِ المقالة إلى كتاب الشاعرة المصريّة الشجاعة إيمان مرسال «كيف تلتئم: عن الأُمومة وأشباحها» فهو مصدرٌ مُهمٌّ؛ لفهم أدب الأمومة المُتشعّب والهامشيّ، إضافة إلى ثيماته المسكوت عنها.

كاتبة عراقية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي