أمل الأخضر: جيلنا الشعري أكثر اقتراباً من الروح والشفافية العالية

2024-04-18

حاورها: عبد اللطيف الوراري

تنتمي أمل الأخضر إلى جيل التسعينيات في الشعر المغربي؛ الجيل الذي كرس الانحياز إلى جماليات الكتابة وقيمة الذات فيها كضمير نصّي ومرجع تخييلي، متخفّفا من الهتاف الأيديولوجي الذي كان إلى عهد قريب ذا سطوة. داخل هذا الجيل، برز الصوت النسائي تحت تأثير الشفافية العالية للذات ونزوعها الغنائي، أو الحالة الصوفية في اتساعها وتجريديتها، وأحيانا أخرى تحت تأثير الانهمام بالجسد، بوصفه بؤرة اشتهاء وتوق؛ فكان ذلك بمثابة «مانيفست أنثوي» يساير النزوع الفرداني للذات، ويُحوّل مدلولاته إلى لسان حال عارم يسمو بتجربة الشعر النسائي في المغرب.

جمعت أمل الأخضر نصوصها الأولى في الباكورة الشعرية «بقايا كلام» عام 1995، التي لا تخلو من دهشة البدايات وتردّدها، قبل أن يتبلور صوتها الشعري في ديوانها الثاني «أَشْبَهُ بي» 2012، ثم في ديوانيها اللاحقين «يَـدٌ لا تُهادِن» 2021 و«عتبة تشايكوفسكي» 2022، استطاعت أن تصوغ عالما فنّيا شديد الحساسية من العالم الذي تكتشفه وتبني عليه، وهو يتوزع بين الانحياز للذات في أحزانها ومفرداتها الصغيرة والحميمية، والسعي لتحرير هذه الذات مما يقعد بها ويحجبها عن رؤية ذلك العالم مُطْلقا كما تحبه وترغب فيه، ومن جهة أخرى تسعى لتغيير هذا العالم بلهجة هامسة وشبه صوفية ومفتونة بالأسئلة، لكنها لا تخلو من نبرة «غضب» و»احتجاج» كلما ازداد العلم قتامة وبؤساً، كأنما تجري في شعرها «شهوة إصلاح العالم».

كيف جاءت أمل الأخضر إلى الشعر؟ هل ثمّة واقعة أو ذكرى قادت خطاك إلى درب القصيدة؟

لا أدري إن كانت ثمة واقعة قادتني إلى كتابة الشعر، لكنني جُبلت على التعبير بشكل أو بآخر، بفضل علاقتي بالعزلة والصمت، منذ صغري. كدست في داخلي كلاما كبيرا. كان لا بد أن يخرج للوجود بشكل من الأشكال. لم أحشر نفسي في التجمعات ولا الحوارات العائلية، أتأمل الأشياء من حولي، وأدندن.. دندنة خافتة، خفيضة، أشبه بالغمغمة، وبالهذيان، مشوبة بحزن شفيف، وبفرح غامض من المشاعر. ثم جاءت بعد ذلك مرحلة القراءة، حيث كان لديّ شغف الاطلاع على كل ما هو سردي أساسا، وكان للنص العجائبي تأثيره الأول عليّ، لاسيما أنّ أبي – رحمه الله – كان يملك المتون السردية القديمة، بل كان حكّاءً ماهرا لبعض تلك المتون، مثل حكايات ألف ليلة وليلة، وسيف بن ذي يزن. هكذا كان السرد، بما تزخر به عوالمه من تعقيد وتوتر وإدهاش ورج قوي، هدنة مؤقتة وجسرا إلى كتابة الشعر.

تنتمي أمل الأخضر إلى جيل التسعينيات في الشعر المغربي؛ الجيل الذي كرس الانحياز إلى جماليات الكتابة وقيمة الذات فيها كضمير نصّي – تخييلي، متخفّفا من الهتاف الأيديولوجي الذي كان إلى عهد قريب صاحب سطوة. كيف تنظرين إلى الصوت النسائي وسط أبناء الجيل؟ وإلى أيّ حد استطاع أن يؤسس مدوّنةَ أخرى تأثير الانهمام بالجسد بوصفه بؤرة اشتهاء وتوق؟

صحيح، جيل التسعينيات الشعري اعتنى بالبحث عن منابع جديدة للقول الشعري، وبالبحث عن إمكانات أخرى. وكانت المرأة المبدعة في صلب هذا الاهتمام، إذ يزخر المشهد الشعري الحديث بأسماء إبداعية مهمة، استطاعت إغناء الأدب المغربي، وترسيخ بصمتها الخاصة بها؛ حيث ظهر الصوت الشعري النسوي أكثر وضوحا وتجليا، معبرا عن أحلامه وآماله وآلامه، مع اختلاف الأساليب والطرائق. أما بخصوص الانشغال بالجسد في رأيي، فلم يكن بؤرة اشتهاء وتوق فحسب، بل كان اشتغالا متباينا من وجهات نظر مختلفة، فهناك الشاعرة التي انطلقت من جسدها كجسد مفجوع جريح، وهناك الشاعرة التي تناولت الجسد كعاشق في لغة أكثر جرأة، وأكثر تجديدا، وكسرا للرتابة، وهناك الشاعرة التي انشغلت بعالم التصوف بحثا عن التحرر الروحي والتماهي مع المطلق، مثلما أن هناك الشاعرة الهائمة بتفاصيل الأشياء الصغيرة من حولها، في غياب تام للجسد الأنثوي، في محاولة منها للانخراط في ما هو إنساني وحسب.

أصدرت باكورتك الشعرية «بقايا كلام» سنة 1995 كيف تستعيدين تلك اللحظة وحماس البدايات والحلم بتغيير العالم في واقع مضطرب؟

سنوات التسعينيات في المغرب كانت في الحقيقة مبشرة وحبلى بالأماني، فقد تميزت بنضالات مجتمعية قوية على المستوى السياسي والنقابي والحقوقي والمدني والثقافي، وخلالها عرف المغرب انطلاق مسلسل العدالة الانتقالية، وطي صفحة الماضي وسنوات الرصاص، وتدشين الانتقال الديمقراطي مع حكومة ترأسها المجاهد عبد الرحمن اليوسفي. فخلال هذه السنوات، كانت الكتابة الإبداعية تساير دينامية مجتمعية عنوانها الآمال العريضة بمستقبل مزدهر. هكذا وجدتني أنخرط في قرار إصدار العمل الإبداعي الأول، باقتراح من أصدقاء لي في جمعية الامتداد الأدبية، ضمن مشروع مدارسة نقدية للأعمال الإبداعية لأعضاء الجمعية، من أجل إخراجها للوجود. كانت هذه المجموعة الشعرية تتكون من عشرة نصوص، مرفوقة بلوحات تشكيلية، للفنان المبدع يوسف سعدون، في محاولة للتماهي بين القصيدة واللوحة، وهي تجربة جميلة تضفي على الكلمة أبعادا جديدة من وحي اللون والتشكيل. وقد قُيّضَ لتلك المجموعة، أن تلقى ترحيبا من القارئ على قلة نسخها، إذ وُزِّعت على المهتمين بالشعر، وأُدرجت في العديد من الأنطولوجيات الشعرية آنذاك. مجموعة «بقايا كلام» شكلت موقفا لي من العالم حولي آنذاك، كما هو الحال بالنسبة إلى مُجايليَّ من الشعراء والكتاب. وقد سادت في تلك الفترة العودة إلى الذات، والركون للحلم كشكل من أشكال التحصين والرفض ضدا على الإحباطات المتوالية في مجموعة من الأصعدة، والبحث عن رحابة إبداعية، وإمكانات جديدة، بعيدا عن الهاجس الأيديولوجي، واقترابا من الروح، واقترابا من الروح والشفافية العالية.

في دواوينك اللاحقة: «أَشْبَهُ بي» 2012، و«يَـدٌ لا تُهادِن» 2021، و«عتبة تشايكوفسكي» 2022، يشعر القارئ بأنّه أمام شاعرة حزينة وما تكتبه هو أشبه بـ«مانيفست أنثوي» غاضب. لماذا هذا الحزن؟ وما وجه العبرة في هذا النزوع الرافض داخل نصوصك للواقع وخذلانه وقباحته؟ وهل يستطيع الشعر أن يقول بشيء ما من أجل تغييره؟

الألم أو الحزن في الكتابة هو ثيمة مشتركة لدى مجموعة كبيرة من الكتاب والمبدعين، على اختلاف جنسياتهم، ولغاتهم، وانتماءاتهم. ويمكن أن نستحضر في هذا المقام، الرسام فان غوخ، والرسامة المكسيكية فريدا كاهلو التي كانت تستلهم من آلامها الجسدية لوحاتٍ وأعمالا رائعة، والموسيقي بيتهوفن المبدع لمقاطع وسوناتاتٍ فنية خالدة، بعد أن عانى من تجربة فقدان السمع، ومع ذلك تمكن من خلق أصوات الجمال والأحاسيس العالية، التي تعدّ من أعظم الإنتاج الموسيقي على مرّ العصور. فهل الكتابة الحزينة تحيل مباشرة على مكابدة المبدع في حياته الشخصية. لا أعتقد أن الأمر صحيح تماما، إذ أرى أن المبدع يمتلك حساسية عالية لالتقاط الأحداث، وملاحظة مجرياتها سواء لحياته، أو لحياة الآخرين من حوله.

إن الصِّلة بين الحزن والإبداع في الإبداع عموما، هو ارتباط طبيعي وحتمي، لما في الإبداع من الخروج من حالة الحزن إلى الحالة الإبداعية، المحيلة على الخلاص الروحي، والدخول في لحظة جمالية تبعث على اللذاذة والبهجة، وتلقي على المبدع عباءة الفرح، وترقى به إلى مدارج الانتصار على الأعطاب، وترميم ما تصدّع، ورتق ما تمزّق في مرحلة ما. ومن ثمّ يصبح الواقع أكثر احتمالا، وتصبح الذوات أكثر تصالحا مع محيطها، وأكثر قدرة على ترويض الجامح، وتيسير الممتنع.

ما هي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة؟ وهل تعودين إلى تنقيح ما تكتبينه؟

ليس ثمة طقوس معينة للكتابة، إذ لا أذكر أني ذهبت إلى القصيدة بعزم، وتحققت رغبتي. تأتيني القصيدة طوعا، وبشكل مفاجئ، وربما في المكان الخطأ. ولم يسبق لي أن ضربت موعدا محددا مع القصيدة، ولا هيأت لها المكان والفضاء المناسبين. أحيانا تزورني في بداية غفوة النوم، أو في المطبخ، أو في صخب الشارع. وأحيانا أشعر بأن القصيدة مكتملة، وأهيئ لها أسباب خروجها، لتعود وتنكفئ على نفسها في نقطة بعيدة من الدّواخل. إن لحظة القبض على القصيدة، عصيّة، منفلتة، مارقة، تحتاج إلى غير قليل من الانتباه والحضور، لكي تحظى بتدفقها ولذاذة تشكلها.

أما عن عودتي لتنقيح ما أكتب، فيمكنني الإجابة بأن أجمل نصوصي، وأقربها إليّ تلك التي كُتبت دفعة واحدة، دون تنقيح وتشذيب، وسُلّمت إلى بياض الورقة مثل مقطع موسيقي، أو سمفونية مكتملة، كأنما رُسمت في شكلها النهائي، في الذاكرة، قبل أن تُسطّر مدادا.

كيف تنظرين إلى ما يجري اليوم في غزة من حرب إبادة؟

في الحقيقة ينبغي قلب السؤال إلى: كيف تنظر إلينا غزة وإلى كل العالم وهي تعيش ما تعيشه من أفظع الجرائم في تاريخ البشرية.. قلب السؤال بهذه الطريقة يضعنا ويضع كل الإنسانية أمام الضمير المؤرق وأمام المسؤولية الأخلاقية التي تعري عجزنا وتقاعسنا وتخاذلنا عن حماية الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين العزل في مواجهة أبشع أدوات القتل. قلب السؤال يسقط الأقنعة ويجرد الحقائق من بلاغة التواطؤ ويكشف كيف أصبح كل المنجز القيمي للبشرية من حقوق الإنسان وحريات وديمقراطية وتعايش مجرد شعارات جوفاء لا تملأ بطون الأطفال الجوعى هناك، ولا تحميهم من بطش القنابل العمياء. فهل نملك بعد كل ما وقع وما يقع أن نرفع رؤوسنا وننظر إلى العيون الشاخصة لآلاف الضحايا الذين لا ذنب لهم سوى أنهم بشر شاء القدر أن يولدوا في زمن انعدمت فيه الإنسانية.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي