شوال طحين

2024-04-19

رياض بيدس

عندما كنا نسمع المثل: «إحضر الطحين والزيت إستوجرت مونة البيت» نصاب بفرحة كبيرة. إذ كان يحمل هذا المثل مغامرة كنا ننتظرها على أحر من الجمر كل شهر، وأحيانا كان يبدأ الشجار بيننا نحن الأخوة الصغار حول من سيحضر شوال الطحين. فالحمار موجود في النص. وأخيرا عندما كنا نستقر على رأي كنا ننزل الى الدكان ركضا صوب الحمار، الذي لا بد أن نلعب عليه بضع ساعات.

كنا ننزل إلى دكان سمعان مسرعين مثل الطلق، وكانوا في الدكان يحملون شوال الطحين ويربطونه على ظهر الحمار بقوة. كنا نمسك الرسن بحذر والدكنجي سمعان يوصينا أن ندير بالنا على حالنا وعلى الحمار، الذي كان عبارة عن حمّال بضائع من الدكان إلى أصحاب البيوت البعيدة لندرة السيارات آنذاك، ولتعذّر وصول السيارة إلى أماكن صخرية عالية كالتي كنا نعيش فيها. عندما انتقلنا من بيتنا القديم في البلد إلى بيتنا الجديد في منطقة «ضهر الكنيس» شبه الخالية والجبلية، كنا ننزل إلى البلدة القديمة ونشتري أغراض البيت، ونضعها في سلال بلاستكية ونصعّد في الجبل الصخري لاهثين والعرق يزرب منا صيفا. وعندما كنا نصل إلى البيت كان أشقاؤنا الكبار ينفحوننا ببعض الشلنات وكلمات التشجيع. أما بالنسبة لشوال الطحين فالأمر يختلف: لا نستطيع أن نحمله، ولا سيارة تستطيع الوصول إلى بيتنا، وقد كان وجود حمار دكان سمعان حلا عظيما.

٭ ٭ ٭

نصعّد في الجبل بروية والحمار يختار الطرق الترابية الضيقة بين الصخور بذكاء شديد. سعيد يمسك الرسن وكيس الطحين مربوط على نحو محكم. كنت أحيانا أمسك الحبال وأقفز على الحمار لأرفد شوال الطحين، لكن سعيد كان يصرخ غاضبا: «مجنون! تزيد الثقل على الحمار في هذا الجبل الصخري العالي. إنزل!» الحمار لا يفهم ما يدور من كلام، لكنه يرتاح بعد نزولي عن ظهره. يقول سعيد: «هيك منيح». وبعد قليل يصير الرسن بيدي سعيد يفحص الحبال التي ربطنا بها الكيس، يقول: «الشوال مربوط منيح كتير!» نصل إلى البيت بعد حوالي ثلث ساعة. نربط الحمار ونفك أربطة الشوال بسرعة متعاونين على حمله وإفراغه في برميل الطحين الخشبي. ترسم أمي إشارة الصليب على برميل الطحين أولا ثم على وجهها بفرح، ونسارع أنا وسعيد إلى الحمار، أمي تنبهنا بلطف: «رجعو الحمار! أوعكو تتعوقو على الدكان! هذا حمار شغل مش تسلية ولعب!» نسمع أنا وسعيد بأذن ونطيّر ما سمعناه بالأذن الأخرى: فنحن منذ شهر ننتظر هذه المناسبة على أحر من الجمر .

٭ ٭ ٭

سعيد يقول: أنا الأول.

أعترض: أنا الأول.

سعيد: بس أنا تعبت أكثر.

ولا ينتظر كثيرا، بل يقفز على ظهر الحمار مرة واحدة وينخسه بعود فيطير الحمار كما لو كان يحجل حجلا. أركض إلى جانب سعيد وهو يقهقه فرحا: «أيمتى دوري؟!».

يردد سعيد مبسوطا: «بعد شوي.. بعد شوي»

لا أملك ساعة يد لأنظر إلى الوقت، لكنني كنت أشعر بأن دور سعيد طال جدا.. يعلو صوت، إنه صوت أخي إبراهيم: «خلص عاد رجّعوا الحمار! سمعان يزعل!». أقول لسعيد غاضبا: «شايف الوقت طار وأنت مكّيف على حالك».. يلتفت إليّ ويقول: «شو رأيك تركب في النزلة؟» أجيب دون تفكير: «قبلان، بس إنزل أنت عن الحمار إسا إسا» ينزل فرحا، أما أنا فأحاول القفز على ظهر الحمار العالي نسبيا لمن في عمري، لكن لا أفلح. يحملني سعيد فأجد نفسي على الحمار. أصرخ : «ناولني الرسن أحسن لأقع!»

بتؤدة وحذر ينزل الحمار، نصل إلى أسفل الجبل، يطلب مني سعيد أن أنزل عن ظهر الحمار. أسأل: «ليش؟!» يقول: «بعد شوي نصل إلى الدكان وما بدنا سمعان يشوفنا على ظهر الحمار ويزعل منا!» أفعل. وما أن أقف على قدميّ بجانب الحمار حتى يقفز سعيد على ظهره مرة أخرى مبسوطا، وأقول غاضبا: «عملتها فيّ !» ويضغط بقدميه على بطن الحمار الذي يسرع في المنطقة المستوية كما لو كانت ريشة على ظهره!

٭ ٭ ٭

أردد بغضب: بدي شوط.

يقول سعيد: شوط براسك.

أهدده: بدي أقول لسمعان…

يقول: قول، أنت بتعرف شو بيصير إذا قلت!

ينط سعيد من على ظهر الحمار ويدفع بيّ بدلا منه.. أدور دورة قصيرة، وعلى مقربة من الدكان يقف سمعان وهو يشقشق بعينيه علينا. ينادي بصوته الرفيع: «يا ولاد رجعّوا الحمار! هذا حمار شغل مش لعب!»..

نقود الحمار إلى الشجرة إلى جانب الدكان ونربطه، ونتمنى لو كان هذا الحمار الرائع والوديع لنا. نعود إلى البيت متعبين لنسمع الخبر الذي سيقض مضجعنا: «سيشقون طريقا في الجبل» أسأل أمي: «وحمار سمعان؟! تقول: «السيارة بتصير توصل لهون» ويقول سعيد: «الدوفين والوويلز والجيب بوصلو لهون».

أسأل بلهفة: وشوال الطحين؟!»

ـ يصل في الأتومبيل.

الدوفين ما بتطلع الطلعة.

يقول سعيد: بالجيب.

عندما كنا ننزل إلى دكان سمعان لنشتري البزر والملبّس كنا ننظر إلى الحمار بحزن، وأحيانا كنا نربّت على ظهره بحنان، إلى أن كان ذات يوم اختفى فيها الحمار نهائيا. هل سرق الحمار؟! هل مات؟! هل بيع؟! لا نعرف، وكل الذي نعرفه أن الحمار اختفى.. ماذا كان اسم الحمار الحقيقي؟ ربما ببساطة لا نعرف.. ربما كان كل زبون يطلق عليه الاسم الذي يريده، أما نحن فكنا نطلق عليه اسم: «جبل»!

كاتب فلسطيني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي