الوثائقي «صيف غير عادي»… تثبيت الفلسطينيين في حكايتهم

2020-05-03

سليم البيك

 

■ كان أحدهم يكسر، وبشكل متكرر، زجاج سيارة والد كمال الجعفري الذي ركب لذلك كاميرا مراقبة تصور الساحة أمام بيته، حيث يصفّ السيارة. وجد كمال الأشرطة في كراتين في بيت أهله، فجمعها ومنتَجها وصنع منها هذا الفيلم.
لدينا هنا عناصر متكاملة لصناعة فيلم: المكان والزمان المحددين (حي يُسمى «الغيتو» في الرملة، في صيف عام 2006)، الشخصية الرئيسية (الوالد وكذلك السيارة)، شخصيات ثانوية (الجيران)، وسردٌ يتبع – إلى حد ما- سؤالَ: من كسر زجاج السيارة؟ هنالك كذلك الشخصية المقابلة للرئيسية، وهو الولد الذي تلتقي العناصر حول سؤال البحث عن هويته.
اكتملت العناصر لكنها، كمكونات، قد لا تعني شيئاً بدون طبخها معا، بدون خلق علاقة تفاعلية وسببية بينها وبين بعضها. سنخرج أخيراً بحكاية تتطور، بتشويق أوجده المونتاج، والخط السردي الذي تكونَ به، بشخصيات كانت تمر في الأشرطة، بدون تلك العلاقة، كأفراد جيران يمضون مبعثَرين كل إلى مشاغله.


في هذا الفيلم صارت اللقطات الفارغة من معنى، المتفرقة عن بعضها، وهو الروتين اليومي لهذا الحي، وتحديداً للسيارة، صارت حكاية بشخصيات، بتطورٍ لهذه وتلك يوصلنا إلى نقطة محددة سنصلها أخيراً. ولأننا لا نحكي عن سيناريو يتم تصويره، ولا ممثلين، كان الشغل الأكبر في صناعة هذا الفيلم هو المونتاج، وإيجاد صوت لمزجه بالصورة، وهو ما جعل تطور السرد فيه محكوماً بما تحويه الأشرطة، وهو ما جعل الحكاية فيه محددة بواقع مصور مسبقاً، وهو ما جعل الجعفري باحثاً عن حكايته فيها أكثر من كونه مؤلفها. الحكاية موجودة، السيارة وكاسر زجاجها موجودان، العناصر المذكورة آنفاً كلها موجودة، وكان على الجعفري أن يصنع حكايةً لفيلمه من المونتاج، وهذا ما كان في فيلمه السابق «استعادة»، إنما باختلافات أتت متقابلة. في «استعادة» أخذ الجعفري من أفلام صهيونية صورت الفلسطيني كديكور، كظل، كخلفية، وكان مغيباً تماماً. أخذ اللقطات وصنع منها خطاً سردياً كان فيه الفلسطيني خارج سياقه، كان مقتلَعاً من أمكنته، ضمن سياق صهيوني، فاقتلعه الجعفري مونتاجياً، وصنع له سياقاً فلسطينياً بُني على اقتلاع الاقتلاع (مقالتي «الاقتلاع وسياقاته في أفلام الفلسطيني كمال الجعفري»، «القدس العربي»، 17 يونيو/حزيران 2019).


هنا، في «صيف غير عادي»، ثبت الجعفري الفلسطينيين في أمكنتهم وأزمنتهم، وهو، ترميز، ما تفعله كاميرات المراقبة، نحكي عن شخصيات بأسماء، نحكي عن مكان وزمان محددين، كانت كلها في سياقها، إنما بلا معنى، بلا سردية، بلا غاية تصل إليها حكاية ما. بالمونتاج كذلك أخذ اللقطات إنما لم يقتلعها كما كان الحال في «استعادة»، بل ثبتها في مكانها، صنع لها الحكاية في مكانها، جعل لوجود هذا وذاك معنى في مكان هو الغيتو، وفي زمان هو يوليو/تموز 2006، ما يجعل الفيلم، بصدفة أو بدونها، استكمالاً تقابلياً لـ«استعادة»، بجعل الأفراد شخصيات، وقد كانت أفراداً في أشرطة كاميرا مراقبة كما كانت في «استعادة» أفراداً في أشرطة سينمائية. ويكون للإنسان معنى، أخيراً، متى صار شخصيةً بحكاية، بسردية لها أحداث في مكان وزمان معلومين، شخصيةً مكتملة بذاتها، لا فرداً يكتسب معناه من إكماله حكايات آخرين أو تزيينها.
في «صيف غير عادي»، المعروض حالياً في مهرجان «فيزيون دو ريل» السويسري للأفلام الوثائقية، استعاد الجعفر صورَ الفلسطيني، المغيب لا بفعل القصدية (كما في «استعادة») بل بفعل التلقائية، لا بفعل ظلم الآخر، بل بفعل ملل الذات، وهو ملل متعلق، في كل الأحوال، بهذا الظلم، كما أن كل تفصيل حياتي للفلسطيني يعود أخيراً لإسرائيل.
فالجعفري الذي استخدم لقطات لحياة فلسطينية روتينية، في صيف عادي وممل، وأخرجها بشكلها غير الروتيني وغير العادي وغير الممل، صانعاً منها حكاية هي فلسطينية تامة، إذ لا وجود لعنصر إسرائيلي لا في الحكاية ولا في مَشاهدها، أنهاها بنص يضع كل الحكاية في سياقها المقابل لحالة الاحتلال: التغييب القصدي في مادة «استعادة» كان في مادة «صيف غير عادي» تغييباً تلقائياً، ذاتياً، وكلاهما بفعل الاحتلال.
انتشل الجعفــــري الأشرطة من كراتينها، ليصنع حكاية من هذا الروتين، ويثبــــت شخصياتها في أمكنتها، فينتفي التغييب التلقائي، ويصير لكل هؤلاء فيلمهم الموثق لحكايتهم والراوي لها.

 

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي