إخفاقات تقاسم السلطة العربية.. عرض مستمر
2021-10-03
محمد أبو الفضل
محمد أبو الفضل

فقدت فكرة التحالفات السياسية الطويلة في بعض الدول العربية بريقها، وخسر مبدأ تقاسم السلطة الكثير من ملامحه الإيجابية، ويكاد يصبح البحث عن إنهاء الخلافات المتجذرة بين قوى مختلفة مثل العنقاء والخل الوفي.

بعد معاناة وجدها اللبنانيون مع نخبتهم بسبب صعوبة التوصل إلى اتفاق مبكر يفتح الطريق لتشكيل الحكومة، تعرضت السلطة التونسية لضربة قوية جراء هيمنة حركة النهضة وإخفاقها في إيجاد قواسم وطنية مع قوى أخرى، ولا يزال التباين مستمرا بين الفصائل الفلسطينية للتفاهم حول الحدّ الأدنى من المطالب الوطنية، فما بالنا بتشكيل حكومة وحدة وطنية.

دخل السودان حقل الألغام وبدأت المعاناة تزيد يوما بعد يوم، وأصبح التفاهم بين المكونين العسكري والمدني في إدارة السلطة الانتقالية مستحيلا، وأخذت المسافات بين المكون الواحد تتسع بدلا من أن تضيق، ولأن العسكريين ليس من السهولة معرفة ما يدور في أروقتهم بدت جبهتهم أكثر تماسكا، غير أن الإعلان عن محاولة انقلاب عسكري فاشلة جرت مؤخرا أكدت أن السوس نفسه ينخر في جبهتهم.

تزايد التآكل في جبهة المدنيين وصارت عملية التوافق التي ظهرت ملامحها عقب إسقاط نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير ضربا من الخيال، ويعزز ما يدور في السودان حاليا ما ذهب إليه عنوان المقال بأن إخفاقات تقاسم السلطة في الدول العربية لا تتوقف، والتحالفات بين القوى السياسية في الحكم أو المعارضة لن يكتب لها النجاح.

تبدو الحالة السودانية ذات خصوصية في بعض جوانبها ويرفض البعض تعميمها على حالات عربية، لكن الأعراض التي ظهرت عليها تؤكد أن تشخيص المرض واحد تقريبا، وأسباب التعثر تنطوي على الكثير من التشابه، ما يعني التوقف عندها يصلح ليكون كاشفا لحالات تحتاج إلى مساحة كبيرة لاستعراض تفاصيلها وتحليل مضامينها.

يزخر السودان بالجدل منذ زمن بعيد، وأسهمت حيويته السياسية وعافيته النخبوية في ارتفاع مستوى الخلافات، ففي خضم الإجراءات القاسية التي اتخذها نظام البشير لم تفلح قوى المعارضة في تشكيل جبهة واحدة للتصدي له، وجرت المواجهة في حلقات متعددة ومتفرقة تتراوح بين الجهود السياسية والعسكرية، داخل كل منها خلافات عميقة استثمرها البشير في استمرار حكمه لثلاثة عقود متصلة.

عندما حدث التفاهم الواسع سقط البشير ونظامه من خلال ثورة عارمة، اتحدت حول هدف دون أن تعرف كيف تتفق حول تداعياته وإدارة المرحلة التالية، ما أدى إلى مظاهر التفسّخ الحالية في جسم السلطة الانتقالية ويمكن أن تتعرض للمزيد من التدهور.

لم تصل المجتمعات العريقة في الديمقراطية أو التي يستند الحكم والمعارضة فيها على قواعد متينة إلى مرحلة متقدمة للتفاهم من فراغ، بل جاءت عبر آليات تراكمت محتوياتها في سنوات طويلة، لها علاقة قوية بأدبيات التربية وأصول الحكم والخصومة والمنافسة، ولو استخدمت في أي منها أدوات تخرج عن المنظومة الأخلاقية والإنسانية التقليدية، فالأساس احترام العقد السياسي والالتزام بقواعد القانون.

تغيب هذه المعايير في دول عربية كثيرة وتظهر الرغبة في الاحتكار جلية، وهي من الآفات السياسية الخطرة لأن غياب تقاسم السلطة ضعيف في الوجدان العام، وربما تحدث تفاهمات تنقض سريعا عندما يشعر أحد الأطراف بقوته وتراجع خصومه.

كما أن تغليب الحزبية والشخصانية والمناطقية والعقائدية وكافة الأمراض التي تدور في هذا الفلك تعد من الوسائل التي يمكن أن تعوق الكثير من التفاهمات السياسية، إذ تحتل هذه المنطلقات أولوية متقدمة عن القيم الوطنية.

وتفضي القطرية دوما إلى انهيارات تضرب العصب المحوري في أي تحالف، ولو ظهرت مؤشرات تلاحم فرضتها ظروف سياسية معينة تنهار بمجرد زوال دوافعها، لأن فكرة التربص حاكمة، ويبقى عدم الاقتناع بجدوى الشراكة وسوء النوايا والتربص المستمر من النقاط الكفيلة بهدم بنيان التحالف.

أضف إلى ذلك أن معظم حالات تقاسم السلطة والتحالفات السياسية في دول عربية لها امتدادات خارجية، وتتأثر بتبعية الدولة أو الجهة التي تربط مصيرها بها ومدى ما تحققه من مكاسب أو خسائر لها، ولعل هذه المسألة غير قاصرة على الحالة اللبنانية، فقد أضحت عدواها في جميع الدول التي شاع فيها اللجوء إلى تفاهمات إجبارية.

كان من الممكن أن يكون السودان نموذجا مختلفا ويقدم تجربة مغايرة لو أصرت قواه الحية على تجاوز خلافاتها، وأمعنت النظر في النهاية التي وصل إليها نظام البشير، حيث تعيد بعض الأطراف تكرار ما عابت عليه وانتقدته وحرضها على الثورة، وهي أكبر ضربة يتعرض لها السودان.

قد لا يتحمل الشعب طويلا رفاهية الخلافات السياسية وهو يئن تحت وطأة سلسلة كبيرة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وربما يقوده التمزق الظاهر في بعض القوى التي راهن عليها وتعلق بها إلى الثورة أيضا، حيث عرف المواطنون الطريق إلى الشارع، ومن أسقطوا نظاما تمترس في السلطة ودهاليزها ثلاثين عاما لديهم القدرة على إسقاط تحالفات لم تستطع الصمود أكثر من عامين.

تشير تجارب دول عدة نجحت فيها التحالفات السياسية إلى أهمية وجود قوة وازنة تمثل عباءة لغيرها من القوى الصغيرة، الأمر الذي تغيب معالمه في كل الدول العربية التي دخلت في أطر مختلفة للتفاهم أو حاولت طرق أبوابه، فالقوة المهيمنة الوحيدة يمكن أن تقود المشروع بلا منافسة من القوى المتحالفة معها، ومهما كانت هويته فهي بإمكانها ضبط التوازنات دون أن تختل بصورة كبيرة.

تسبب التقارب النسبي في معايير القوة في منع التوصل إلى تفاهمات حتمية بين الفصائل الفلسطينية مثلا، حيث تريد حركة فتح ابتلاع حماس، والعكس، ما جعل الانقسام من المبادئ الرئيسية في الحالة الفلسطينية، وحتى القوة العسكرية الجبارة التي يملكها حزب الله لم تمكنه من الهيمنة التامة أو الانفراد بالقرار في بيروت، لأن حاصل جمع القوى السياسية المعارضة له يقلص الفارق الكبير في القوة العسكرية.

وهي المعادلة التي قد يعاد تكرارها في السودان، حيث جرى تقويض القوة التي تمتلكها المؤسسة العسكرية في مجلس السيادة الانتقالي بالتكاتف الكبير بين المؤسسات المدنية، لكن لن تستطيع الثانية الصمود وهي تواصل السقوط في المزيد من الخلافات، بما يتيح للمكون العسكري تفوقا يساعده في إجبار خصومه على الانصياع لأجندته.

يجبر الدخول في هذا المسار القوى المدنية على العودة إلى الالتفاف حول أجندة واحدة، وهكذا سوف تظل إخفاقات تقاسم السلطة عرضا مستمرا، لأن القواعد التي تنطلق منها هشة، والنتائج السلبية التي تصل إليها يصعب علاجها سياسيا.

 

  • كاتب مصري

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس

 "العرب"

 



مقالات أخرى للكاتب

  • المؤامرة على مصر مرة أخرى
  • التنمية قبل السياسة في مصر
  • محاذير عربية حول المصالحات الإقليمية






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي