«السوشيال ميديا» قد تقودنا إلى الحضيض
2022-07-12
ياسر عبد العزيز
ياسر عبد العزيز

كان العالم الألمانى المولد ألبرت أينشتاين (1879- 1955) هو من قال «أخشى اليوم الذى ستتجاوز فيه التكنولوجيا تفاعلنا البشرى، لأنه سيكون فى العالم يومئذ جيل من البلهاء». ورغم أن أينشتاين، الذى لُقب بـ«أبى النسبية»، كان اختصاصياً لا يُشق له غبار فى الفيزياء، فإنه استطاع أن يضع يده على تحولات اجتماعية وسلوكية سلبية عميقة يمكن أن تُحدثها التطورات التكنولوجية فى المجتمعات غير الفطنة وغير المنتبهة.

لم يكن أينشتاين قد عاصر فترة ابتكار وسائط ما يُسمى «التواصل الاجتماعى»، ثم صعودها المذهل وازدهارها العظيم، لكن ما حققته تلك الوسائط لاحقاً من تمركز ضمن واقعنا المعاصر والمستقبلى، وما اختصت به نفسها من قدرة على التدخل والتأثير فى شتى مجريات حياتنا، يمكن أن يقودنا إلى الوضع الذى حذر منه هذا العالم الفذ، إذا لم ننتبه لكثير من التجاوزات التى نرتكبها والخطوط التى نتجاوزها خلال استخدامنا لها.

يقول كثير من العلماء والنقاد البارعين فى مجالات بحث متعددة إن تلك الوسائط حققت اختراقات كبيرة وغير مسبوقة فى الحياة الإنسانية، لكنهم مع ذلك يركزون على نتيجة سلبية تتكرر كثيراً فى الأبحاث والمقاربات النقدية، ومفادها أن عالم وسائل «التواصل الاجتماعى» يتسم بقدرة غير محدودة على منح منابر لأولئك الذين يجب ألا يخاطبوا العموم أو ينخرطوا فى نقاشات جادة، وأن الإفراط فى ذلك يمكن أن يحول مجموعة من الأفاكين أو شذاذ الآفاق أو المعاقين ذهنياً إلى قادة رأى، وأن الاستسلام لذلك يمكن أن يحرف اتجاه المجتمعات، وأن يقودها إلى الحضيض.

الحضيض هى الكلمة التى أجدها أكثر دقة وتعبيراً عما حدث أخيراً على سبيل المثال فى النقاشات التى دارت على تلك الوسائط بخصوص قضية مقتل نيّرة أشرف على يدى محمد عادل، وما نتج عن ذلك من محاكمة جنائية وعصف ذهنى مجتمعى على مستويات شتى.

لقد هيمنت على متابعة تلك القضية مغالطة منطقية عظمى، وكانت وسائط «التواصل الاجتماعى» هى اللاعب الرئيس فيها والمتحكم فى مسارها والمنتج المباشر لأثرها.

فالقضية التى بلغت مبلغاً قياسياً من الوضوح (مثلما درجة وضوح الفيديو الذى عرض واقعة الذبح تماماً) تحولت إلى مسارات بعيدة ومختلفة تمام الاختلاف، وبينما قاد هذا التحول نفر من غير الجديرين بممارسة الحديث العمومى أساساً، فإن قطاعات كبيرة من قادة الرأى المفترضين انصاعوا لهم ورقصوا على إيقاعاتهم.

هل قتل محمد عادل نيرة؟ هل اعترف بجريمته؟ هل يوجد أى عارض يمنع مساءلته قانونياً عما اقترفه؟ هل عقوبة القتل العمد المعزَّز بالنية واضحة فى القانون؟

عندما تكون إجابات تلك الأسئلة واضحة، ستكون نتيجة القضية معروفة، وسيهتم الجادون بالبحث فى الوسائل التى يمكن أن تقلص إلى أقصى حد احتمالات تكرارها، سواء على الصعد الاجتماعية أو الأمنية.

لكن ما جرى فى مصر، وعبر تلك الوسائط تحديداً، كان أمراً مختلفاً تماماً، بحيث قادنا إلى أسئلة من نوع: هل نيرة تستحق القتل؟ هل ملابسها مسئولة عن قتلها؟ هل عدم ارتدائها الحجاب يسوغ ذبحها علناً؟ لماذا لم تتجاوب نيرة مع عواطف محمد عادل الجياشة؟ هل الدية مطبقة فى مصر ويمكن من خلال دفعها أن يُعفى قاتل من عقوبة الإعدام؟ هل يتوجب علينا أن نحول بناتنا ونساءنا إلى «قفف» حتى نأمن عليهن فى الشوارع؟ هل محمد عادل أيقونة جيل ويستحق أن ننظم حملات لتأييده أو التعاطف معه أو جمع أموال لتحسين موقفه فى المحاكمة؟

يجب أن نقف وقفة مع تلك الوسائط، ومع الطريقة التى نستخدمها بها، كما يجب أن نسأل أنفسنا إذا ما كانت قادرة على أن تصنع كل هذا الخطل بمفردها، أم أن قابليتها الكبيرة للتلاعب يمكنها أن تحول مجرى أى قضية مجتمعية إلى هذا القدر المفرط من العبث، بحيث تقودنا إلى الحضيض؟

لا يمكن إنكار أن فصيلاً اجتماعياً وسياسياً معيناً وجد فى تلك القضية فرصة نادرة للعودة إلى الساحة من الجديد، عبر التأكيد على إحدى شاراته الاجتماعية/ السياسية المهمة، باعتبارها ضرورة لا يمكن تجاوزها من أجل صناعة الأمن الاجتماعى والسلم الأهلى.

وفى ذلك التوجه خطل عظيم بطبيعة الحال، إذ سمحت تلك الوسائل بخلق تلك الفكرة وتعميمها أولاً، ثم بناء مناصرة لها على أسس عاطفية منقطعة الصلة عن المنطق ثانياً، وصولاً إلى تحويلها قضية جوهرية، تطرح سؤالاً يحل مكان السؤال الطبيعى: هل محمد عادل ارتكب جرماً يستحق عقوبة تقدرها القوانين النافذة؟

وبموازاة تلك المغالطة المنطقية الكبيرة تُصطنع كل يوم مغالطة مشابهة على الوسائط الرائجة، فيرتكب بعض المتنطعين جرائم، أو يصطنعون ارتكابها، ويصورنها، أو يبثونها بثاً حياً، طمعاً فى حصد مشاهدات، تترجم فى عوائد مالية أو تحقق شهرة وأهمية لأصحابها.

كما ينخرط آخرون بشغف كبير وثقة واعتداد فى تجارة الخصوصية، فيحولون حياتهم الخاصة أو حياة أبنائهم وأزواجهم إلى سلعة تباع على شاشات الهواتف لحصد أموال وشهرة.

لم يكن أينشتاين مخطئاً عندما وصف مثل هذا الإغراق بالبلاهة، لكنه لم يكن متشائماً بما يكفى ليتوقع مدى خطورة ما يمكن أن تقودنا ممارساتنا الشاذة على وسائل «التواصل» إليه من عبث وخطل وحضيض.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – الوطن-



مقالات أخرى للكاتب

  • الناتو الشرق أوسطى.. وخلل التوازن
  • علامَ تعتمد لمعرفة ما يجري في أوكرانيا؟
  • النزعات العنصرية فى «الميديا» الغربية





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي