من فييتنام وتشيلي إلى العراق وفلسطين: كيسنجر في مزابل التاريخ
2023-12-01
 صبحي حديدي
صبحي حديدي

في وسع مناصري هنري كيسنجر (1923-2023)، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والأشهر في أطوار ما بعد الحرب العالمية الثانية وعقود الحرب الباردة؛ أن يبدأوا من سلسلة مواقع شخصية وظيفية انفرد بها، فلم تفرده عن سواه من شاغلي المواقع ذاتها فحسب، بل منحته شهادة نصح عالية الاعتماد لدى زعماء العالم المعاصر، من قادة المعسكَرين السابقين الغربي والشرقي، إلى نفر من طغاة العالم ومستبديه في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، مروراً بدولة الاحتلال الإسرائيلي ضمن مقام خاصّ واستثنائي التميّز.
لقد كان أوّل أمريكي بافاري الأصل، يهودي الديانة من أسرة لاجئة، ينقلب إلى رجل سياسة ودبلوماسية وأمن قومي، ويخدم 12 رئيساً أمريكياً في وظيفة مباشرة فعلية أو أخرى غير مباشرة واستشارية، مما يجعله مهندس هذه أو تلك من كتلة قرارات أمريكية كونية لرُبع رؤساء أمريكا أجمعين. وكان سبقاً نادراً تماماً أن يتولى موقع مستشار الأمن القومي سنة 1969 في إدارة ريشارد نكسون، ثمّ يحتفظ بالوظيفة ذاتها إلى جانب وزارة الخارجية في سنة 1973، ويواصل مهامّ مماثلة بعد استقالة نكسون وتنصيب جيرالد فورد. وفي الحالتين، كما يقرّ دافيد سانغر كاتب رثائه في صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخراً، كان الرجل الذي «أعاد صياغة الدبلوماسية لتعكس مصالح أمريكا، وعُورض لأنه أهمل القيم الأمريكية، خاصة في ميدان حقوق الإنسان، كلما اعتقد أنّ التخلّي عنها يخدم أغراض الأمّة».

حقبة السبعينيات في السياسة الخارجية الأمريكية جرى تخريب الديمقراطيات الوليدة هنا وهناك في العالم،
مقابل صناعة الدكتاتوريات وحماية أنظمة الاستبداد والفساد

وكان أوّل مسؤول سياسي ودبلوماسي أمريكي يعاصر كامل رؤساء الصين الشعبية منذ استحداث المنصب، ابتداء من ماوتسي تونغ وحتى شي جين بينغ، بحيث يمكن الافتراض بأنه عاش القسط الأعظم من تحوّلات البلد الكبرى، السياسية والاقتصادية والإيديولوجية، وتعاطى مع الثورة الثقافية مثل اقتصاد السوق الاشتراكي، وشهد التآخي المزعوم بين قطاع الدولة والرأسمال الحرّ. وفي تموز (يوليو) الماضي فقط، لقي كيسنجر في بكين استقبالاً حافلاً قلّ نظيره لدى كبار زوّار الصين، بل أنّ مليارديرات أمثال إيلون ماسك وبيل غيتس لم يحظيا بحفاوة مماثلة، أو حتى مدانية.
وفي سنة 1973 تقاسم كيسنجر جائزة نوبل للسلام مع الدبلوماسي من فييتنام الشمالية لو دوك ثو، وذلك في أعقاب المفاوضات التي احتضنتها العاصمة الفرنسية باريس وتكللت بصفقة إنهاء التورط الأمريكي في حرب فييتنام؛ رغم أنّ انتصار ثوار الفييتكونغ الصاعق، لاحقاً، جعل تلك الاتفاقية تحصيل حاصل. ولم يكن عجيباً، مطلع 1974 تحديداً وفي ذروة انكشاف فضيحة ووترغيت، أن تضعه أسبوعية «نيوزويك» الأمريكية على غلافها، ولكن في هيئة «السوبرمان ك.»؛ فتلك كانت حقبة السبعينيات في السياسة الخارجية الأمريكية، حين جرى تخريب الديمقراطيات الوليدة هنا وهناك في العالم، مقابل صناعة الدكتاتوريات وحماية أنظمة الاستبداد والفساد. وكان انقلاب تشيلي، 1973، هو المثال الأوضح حين أعلن كيسنجر أنّ واشنطن (وبالتالي هو شخصياً، خلف رئيسه نكسون) كانت «مخيّرة بين الديمقراطية والاقتصاد، وكان طبيعياً أن تنحاز إلى الاقتصاد»!
وفي الانتقال من فييتنام وتشيلي إلى الشرق الأوسط، العراق وفلسطين بصفة خاصة، لعلّ من المفيد اقتباس الحصيلة الكيسنجرية عن طريق مارتن إنديك، سفير الولايات المتحدة الأسبق في دولة الاحتلال وأوّل يهودي يتولى هذا المنصب على دفعتين بين 1995 و2001، ومساعد وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ونائب رئيس معهد بروكينغز. كتابه «سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفنّ دبلوماسية الشرق الأوسط» لا صلة تجمعه بأيّ فنّ آخر سوى ألاعيب الخطوة خطوة وأحابيل فكّ الارتباط؛ سواء في إتمام صفقات السلام بين أنور السادات ودولة الاحتلال، أو في استدراج حافظ الأسد إلى حيث كان يهرع أصلاً تحت خيمة سعسع.
فصول الكتاب تنتهي إلى، لأنها ابتدأت أصلاً من، إسباغ صفة «هنري العرب» على كيسنجر، ليس تيمناً إلا بسَلَف بريطاني شهير بدوره هو لورانس العرب: «الفارق بين زعيم عظيم وآخر عادي ليس شكلاً وفكراً بل رؤيةً وشجاعة. الرجل العظيم يفهم جوهر المشكلة، والزعيم العادي يدرك الأعراض فقط»؛ يسوق إنديك هذا الاقتباس من كيسنجر نفسه، كي يعقد الصلة مع الضابط الاستعماري البريطاني، ولكن كي يقزّم أيضاً أولئك العاديين العرب الذين جرّهم إلى الحاضنة الأمريكية/ الإسرائيلية..
خلاصاته الأشهر بصدد الشرق الأوسط يصحّ أن تُستعاد، مراراً وتكراراً وعلى نحو شبه حرفي أحياناً، لأنّ هذه وسيلة تدقيق الفحوى وتثبيت المغزى في آن معاً:
ـ ترشيد دولة الاحتلال الإسرائيلي بضرورة سحق الانتفاضة الأولى، بطرائق «وحشيّة وشاملة وخاطفة»، طبقاً لمفردات كيسنجر كما أسرّ بها جوليوس بيرمان الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية.
ـ حض الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب على انتهاج ضربات «جراحية» تستهدف عمق العراق الحضاري والاجتماعي والاقتصادي، بما يصيب البلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية.
ـ المزج بين القصف السجّادي الشامل وبين توفير عدد منتقى من الأهداف، بما يضمن «نزع أسنان العراق من دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي من جانب جيرانه المتلهفين على ذلك».
ـ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، القتيل بأيدٍ يهودية لاحقاً، لأنّ ما تعاقدوا عليه مع ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض قد يفضي إلى دولة فلسطينية (رفضها كيسنجر على أية حال وأيّ شكل وأينما قامت).
ـ التهكم العلني على بعض «الصبية الهواة» في البيت الأبيض، الذين لا يميزون بين «البزنس» والأخلاق، ويخلطون التجارة بحقوق الإنسان، ولا تفريق عندهم في حروب التبادل بين العصبوية الأورو ـ أمريكية وشرعة التقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيقة…
ولعلّ كتاب كيسنجر الضخم «دبلوماسية»، 1994، هو عصارة مصالحات الفكر البراغماتي والتعاقد السرّي مع توازنات القوّة، وخلاصة انعدام الحدّ الأدنى من الأخلاق بين العنف والرطانة الليبرالية، وبين الدم والبترول؛ بقدر ما هو، أيضاً، وصفة عالم خرج من قمقم الحرب الباردة دون أن يهتدي الى فضاء جديد، وما يتمحور معه من أعراف جديدة وألاعيب (تسمّى «ستراتيجيات» من قبيل التهذيب الذرائعي). المبادئ، هنا، تقوم على التالي:
1 ـ العالم الراهن يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، امتلاك المعنى الأشدّ وضوحاً وبروداً ونفياً للعواطف بصدد مضمون وجدوى مفهوم المصلحة الوطنية (والكونية، لأنّ المصلحة الوطنية الأمريكية هي مصلحة البشرية، شاءت تلك البشرية أم أبت).
2 ـ ينبغي وضع أكبر قدر ممكن من علامات الاستفهام والريبة، أبد الدهر ودونما تردّد أو تلكؤ، على أي ترتيبات متصلة بالأمن الجماعي، سيما تلك التي ترتكز جوهرياً على ذلك «الإجماع الصوفي الغامض» حول أخلاقية انتفاء القوّة (وبالتالي اللجوء إليها) في مختلف ميادين العلاقات الدولية.
3 ـ لا مناص من ترجيح (ثم صياغة وتطوير) التحالفات الصريحة القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات المقابلة التي تحوّل مقولات «السلام» و»الحرّية» إلى شعارات وشعائر زلقة ومطاطة وجوفاء.
وفي أحدث تعليق له على الإبادة الجماعية التي ينتهجها الكيان الصهيوني في قطاع غزّة هذه الأيام، اعتبر سليل اللجوء اليهودي الألماني إلى أمريكا أنّ تظاهرات برلين المؤيدة للفلسطينيين ليست سوى نتاج سياسات الحكومة الألمانية في استقبال… اللاجئين. كأنّ مزبلة تاريخ غزاوية، إضافية وراهنة ومتوّجة للسنة الـ100 من الهمجية الهوجاء، كانت تنقص مزابل كيسنجر، الكثيرة السابقة!

 

*كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا

 



مقالات أخرى للكاتب

  • نيويورك تايمز: خيانات ما تبقى لهم من ضمائر
  • هويات بلينكن: قاب قوسين من الصهيونية… أم أدنى؟
  • جيجيك في غزّة: الراقص والضحية






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي