الهروب.. فن مزاولة الصيرورة

2021-07-26

ناتالي الخوري غريب

الهروب فن مزاولة الصيرورة، ومن يأبه بالخطى حينذاك بطيئة كانت أم سريعة.

المبتعدون من الضجيج، يستجيبون لذلك التدفق الأصيل من أعماق الذات، من أجل مزيد من الطمأنينة في تحقيق التناغم مع الطبيعة وأصواتها وألحانها.

الهاربون من ذواتهم، يحاولون التحرر من صنمية وجههم الذي حجّرته صورة المثال، يحاولون التحرر من ذلك الإطار الذي وضعه لهم الناس والمجتمع بتقاليده وعاداته وقيوده ومحرماته.

الهاربون من الحب، يحاولون أن يتغلبوا على هشاشتهم، بتقبل ما أنكروه طويلًا من حتمية النهايات. والهاربون إلى الحب يحاولون الانتصار على الزمن بزوادة كبيرة من شغف تلك اللحظات التي تحيا في عناق أي حبيبين يرونه، في الشاشات أو على الأرصفة، أو في أعماقهم!

المتعبون من الصداقات ومن ترميم زجاجها بمبررات المثال، تنبهوا إلى نزف أيديهم، فآثروا القطيعة التي تبقي تناسق اللون في وجدان إبريق البلور بلا ماء.

المتعبون من المنافسات، هم الأحرار الذي تحلّوا ببصيرة كشفت لهم سر السعادة في هذه الزيارة إلى الأرض، فتمتعوا بحكة القدم على الأرض، كعاشق يمشي في قلب حبيبته. فلا مناصب، ولا مصالح، ولا غايات تعادل تلك المتعة في جعل اللحظة غاية في ذاتها.

الهروب إلى الأمام، سفر إلى حيز الإمكانات غير المأهولة سابقاً، لربما تكون حلماً ينفلت من لحظات السكن في الخيال إلى ما هو أبعد من النهايات.

الهروب إلى الوراء، عودة إلى وسادة من استكانة، وقد تفيدنا إشارات نيتشه إلى العود الأبدي أنه ليس سوى «معيار تقييم، ومبدأ لانتقاء لحظات من حياتنا تستحق أن تعاش، أو لتلك التي لا تستحق، ذلك إن نيتشه يدعونا الى العيش بطريقة لا يعود معها للندم أو لوخز الضمير أي معنى وأي قيمة».

لعلنا نجد في مساءلة ذاتنا مساءلة وجودنا، لتأتي كل حركة فعل جبن، أو بطولة، وفي كلتا الحالين موقف. والموقف لا يتدلى من علو، في اللازمان واللامكان. محطات في الطريق تستدعيه، وعلينا أن نختار المضي في سكة مرسومة أو الانحراف عن مسار الأغلبية. وفي الانحراف مغامرة السكن في المتاهات، العمر يمضي في كل الأحوال، والمواقف سوف تمضي. لا بأس ببعض الانسلاخات. الانسلاخات تطال المشاعر، لكنها لا تطال الروح، ما يُسلخ من الروح، يعيد نموه في الروح. ولعل الهروب نسق من التصدعات المتتالية، تحيي من خلالها أولئك اللامتحركين على جانبي الحواجز، هم يسجلون المارين وأعداد بسماتهم وعبساتهم، من أجل التلهي، كالفطريات التي تعتاش من رصيد مشاعر الآخرين.

وربما كل خطوة، إنما هي محاولة لإعادة ترتيب العالم، وربما لإعادة ترميم وجهه، ذلك الوجه الذي تغبش في المرايا، أو ربما يكون استراحة من الهذيان في الضمائر المنفصلة للأنا، تلك التي تجعل من المسافات مجالاً أوضح للرؤية.

والهروب ليس عزوفاً عن النشاط كما يصرح جيل دولوز، فلا شيء أكثر نشاطا من الهروب، إنه نقيض المخيال في تعريفه، وبذلك هو الإقامة في الحركة، تحاول عبره إنقاذ ما بدا لك أنه يمكن إنقاذه كمحاولة أخيرة قبل الخسارة.

قد يطول زمن هذا الابتعاد أو يقصر، وربما يصبح غاية، أو نمط حياة، كمن يضع صرته على كتفه، ولا ينظر إلى الوراء، فكل ثمين تحمله الروح، ولا يعود للمكان إلا تأثير في العين، نغادره. نهرب بالرسم، نظراً وفعلا وتأويلاً، لتصح مقولة سلفادور دالي بالتصوف النووي والتوحد باللون والموضوع وكريات الحياة التي بشّر بها، فينتفي حينذاك كل شعور بالغربة والانفصال. نهرب بالكتابة لإنقاذ ما تيسر من انفلات ذلك الخيال في عوالم من نور تضيء لهذا الرماد اتجاهات السفر. نهرب بالكتابة صوغاً لجمل قصيرة، لا استفهام في آخرها. نهرب بتكسير المرآة، لأنها صارت مسودة نكتب عليها مخطوطة لا ترى النور، وتوجيه النظر نحو الأفق البعيد، لتأجيل الغثيان، بقبول لا عداوة فيه للآتي.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي