الصراع بين المنتمي واللامنتمي في فيلم «غزو خاطفي الأجساد»

2021-11-19

زيد خلدون جميل

يعتقد أغلب متابعي الأفلام السينمائية، أن أفلام الخيال العلمي تتصف بالاعتماد اعتمادا رئيسيا على تقنية الخدع السينمائية، وقصة لا علاقة لها بالواقع، وكأنها أفلام رسوم متحركة للأطفال. وهم ليسوا على خطأ تماما، فأشهر أفلام الخيال العلمي عديمة العلاقة بالعلم، وتنطبق عليها هذه الصفات مثل سلسلة أفلام «حروب نجمية» Star Wars وسلسلة «منتزه جوراسيك» Jurassic Park، على الرغم من ادعاء صانعيها أنها ذات أساس علمي تحمل رسائل فلسفية. وأحيانا يحاول صانعو هذه الأفلام إدخال فكرة تبدو حضارية في مظهرها لإضفاء درجة من الاحترام على الفيلم. ولكن مع ذلك هنالك الاستثناء، فقلة من الأفلام تتخذ من الخيال العلمي وسيلة لإيصال فكرة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية حقيقية بشكل رمزي، مثل فيلم «استعراض ترومان» (1998) The Truman Show وفيلم «الطابق الثالث عشر» (1999) The Thirteenth Floor، ولكن الفيلم الأشهر في هذه المجال كان «غزو خاطفي الأجساد» (1956)، الذي كان مأخوذا عن رواية شهيرة ومثيرة للجدل نشرت عام 1955 للكاتب الأمريكي جاك فيني، بطولة الممثل الأمريكي المعروف كيفن مكارثي. وأعيد إنتاجه ثلاث مرات في أعوام 1978 بطولة دونالد سذرلاند وجيف غولدبلوم و1993 بطولة غابريال أنور وفوريست وتيكر، و2007 بطولة نيكول كدمان ودانييل كريغ. وحصل كل من هذه الأفلام على إعجاب النقاد والمشاهدين. وقد بلغ نجاح هذه الأفلام إلى درجة أن تعبيرا ذا دلالة سياسية واجتماعية ظهر في اللغة الإنكليزية بسببها.

قد يكون الفيلم الثاني للرواية، الذي عرض عام 1978، الأفضل بين الأفلام الأربعة، حيث حقق النجاح الأكبر من الناحيتين التجارية والفنية، وقد يكون السبب أن الفيلم الأول من السلسلة كان بميزانية صغيرة لم تتجاوز الثلاثمئة وثمانين ألف دولار، واستغرق تصويره ثلاثة وعشرين يوما فقط، كما كانت القابليات الفنية والتقنية للسينما غير متطورة بما فيه الكفاية. ومع ذلك فإن مهارة المخرج والممثلين مكنتهم من إنتاج فيلم متميز. بينما كان الفيلم الثاني، الذي لم يكن من اشترك فيه اقل مهارة، قد امتاز بميزانية كافية، واستغل التطور التقني الذي طرأ على صناعة السينما حتى تلك الفترة، ولذلك سنتناول الفيلم الثاني بالذات لمناقشة فكرة هذه السلسلة من الأفلام.

أحداث الفيلم

تنتقل بذور لنوع غريب من النباتات عبر الفضاء الخارجي حتى تصل الأرض. وما أن تلامس تربة الأرض حتى تنتج كل بذرة زهرة غريبة الشكل. وتحصل إحدى هذه الأزهار الغريبة على إعجاب العالمة «اليزابيث» (بروك آدامز) التي تعمل في وزارة الصحة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، فتقتلع نبتة كاملة وتضعها في مزهرية بالقرب من سريرها في المنزل الذي تسكنه مع حبيبها. ولكن عندما تستيقظ في صباح اليوم التالي تلاحظ أن حبيبها يتصرف معها ببرود واضح، بل إن شخصيته تغيرت تماما. وتفصح «اليزابيث» عن استغرابها لزميلها في العمل «ماثيو» (دونالد سذرلاند) الذي يقترح عليها عرض الأمر على صديقه الدكتور «دَيفيد» المختص المعروف بالأمراض النفسية، الذي يقوم في وقت لاحق من اليوم نفسه بحفل تقديم كتابه الجديد. وأثناء توجههم بالسيارة إلى مكان الحفل يتفاجأون بمشهد مرعب، إذ يشاهدون رجلا (كيفن مكارثي) يركض في الشارع صائحا «إنهم قادمون، وأنتم التالون»، ويطارده جمع من الناس، وإذا بسيارة تصدمه وترديه قتيلا.

وعندما يصل الاثنان إلى مكان الحفل يحاول «ماثيو» الاتصال بالشرطة لإبلاغها بالحادث، ولكنه يكتشف أن الشرطة غير آبهة بالأمر. وتشرح «اليزابيث» مشكلتها مع حبيبها للطبيب النفسي المعروف، إلا أنه يعلل الأمر برغبة حبيبها في إنهاء علاقتهما، وتقتنع «اليزابيث» بكلامه. ويكتشف «ماثيو» تدريجيا ما يحدث حوله في المدينة، حيث تقوم هذه البذور بالنمو عندما تكون بالقرب من شخص نائم وتتمدد جذور منها نحو الضحية مغطية إياه تدريجيا. وتنمو البذرة بسرعة، وما أن يصل طولها حوالي المتر حتى تنفتح ليخرج منها كائن شبيه بالضحية.

ويحاول الأشباه تحقيق أهدافهم بجميع الوسائل مثل القوة والخداع والإغراء، فعندما يشاهد «ماثيو» شبيهة «اليزابيث» عارية تحاول إقناعه بالانضمام إليهم مدعية انعدام مشاعر الخوف أو القلق أو الوحدة في عالمهم، وسيادة مشاعر الراحة والاطمئنان.

وتتآكل الضحية بينما يأخذ الشبيه مكانها ممتلكا جميع ذكرياتها ومعرفتها، ولكنها لا ترث شخصيتها ومشاعرها، إذ تختلف شخصية الشبيه جذريا عن شخصية الضحية. وتتميز شخصية الشبيه بكونها عديمة المشاعر الإنسانية، وجزء من منظومة استخباراتية واسعة متكونة من الأشباه الآخرين، وتعمل بشكل حصري من أجل المنظومة بمختلف الوسائل. ومن واجبات كل من المخلوقات الشبيهة العثور على البشر والإيقاع بهم كي ينتجوا شبيهين لهم، وقتل الضحايا مباشرة بعد ذلك. ويحاول الأشباه تحقيق أهدافهم بجميع الوسائل مثل القوة والخداع والإغراء، فعندما يشاهد «ماثيو» شبيهة «اليزابيث» عارية تحاول إقناعه بالانضمام إليهم مدعية انعدام مشاعر الخوف أو القلق أو الوحدة في عالمهم، وسيادة مشاعر الراحة والاطمئنان. وما أن يكتشف أحد الأشباه إنسانا حقيقيا حتى يصدر صوتا يصم الآذان منذرا الأشباه الآخرين بوجوده كي يلقوا القبض عليه، وعندها ينتجون مخلوقا شبيها له، وإذا كان ذلك غير ممكن فإنهم يقتلونه. ولذلك، كان الرجل الذي شاهده «ماثيو» يركض في الشارع ويطارده جمع من الناس، قد اكتشف الحقيقة، ولذلك كان الأشباه يحاولون اللحاق به لإسكاته عن طريق قتله. وأما حبيب «اليزابيث» الذي وجدته مختلفا عند استيقاظها في الصباح، فلم يكن حبيبها في الواقع، بل شبيها له كان قد أنتجته تلك النبتة التي وضعتها «اليزابيث» بالقرب من سريرهما. ويكتشف «ماثيو» أن الأشباه سرعان ما سيطروا على الأجهزة الأمنية والمراكز الحكومية، وإنهم يقودون الأطفال نحو مراكز لإنتاج مخلوقات شبيهة بهم. ويكتشف كذلك أن للأشباه أهدافا توسعية، حيث يقومون بشحن البذور إلى مختلف مناطق الولايات المتحدة والعالم عن طريق الشاحنات والسفن، كي تسيطر هذه المخلوقات الشبيهة على العالم بأكمله. ولكن مشكلة واحدة كانت تؤرق الأشباه، فهم لا يمتلكون مشاعر جنسية، ولذلك فإنهم لا يتكاثرون ويبقون على قيد الحياة لمدة خمس سنوات فقط ليتحولوا بعدها إلى بذور مرة أخرى ويغادرون كوكب الأرض إلى كوكب مأهول آخر ليعيدوا الكرة هناك تاركين كوكب الأرض خاليا من البشر. ويكتشف «ماثيو» أن أشباه يحلون محل أصدقائه تدريجيا، فأخذ يشك في كل من حوله محاولا جهده أن يقلد الأشباه في تصرفاتهم كي لا يكتشفوه.

تشاهد فتاة هاربة من المخلوقات الشبيهة «ماثيو» يمشي في الشارع، فشعرت بسعادة جارفة لرؤيتها إنسانا حقيقيا حيث كانت تعرفه جيدا، واقتربت منه مبتسمة، فإذا به ينظر إليها بطريقة مرعبة ويصدر صوتا عاليا يصم الآذان ومشيرا بيده نحوها. لقد كان ذلك شبيه «ماثيو» حيث أن «ماثيو» الحقيقي قد انتهى. وينتهي الفيلم.

في نهاية المطاف يتبادر إلى الذهن سؤال مهم، هل الإنسان مستقل فعلا؟ قد يكون الجواب أن الإنسان على درجة محدودة من الاستقلال مهما ادعى العكس، فالإنسان يطيع القانون لأنه سيتعرض للعقاب في حالة خرقه، ويجد صعوبة بالغة في عدم مجاراة سياسة الدولة مهما كانت درجة اقتناعه بها.

تحليل الفيلم

دارت مناقشات كثيرة حول مغزى هذه الأفلام الأربعة منذ عرض الفيلم الأول عام 1956 والرواية التي اقتبس منها. ورأى بعض النقاد أن الفيلم يرمز إلى ظاهرة المكارثية، التي قامت بحملة واسعة لاكتشاف الشيوعيين في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث وظفت جميع الوسائل للتعرف عليهم. ولكن نقادا آخرين، كان لهم رأي مختلف، مفاده أن الفيلم يحذر المشاهدين من خطر الحزب الشيوعي الذي ينتشر في الخفاء عن طريق خداع المواطنين بأن الانضمام اليه يمنحهم السعادة الدائمة، ويرضي جميع احتياجاتهم النفسية والمادية، عن طريق خلق المجتمع المثالي والمنسجم تماما، حيث يخلو المجتمع من أي شخص مختلف عن الآخرين، وفي الحقيقة أنه يفقدهم فرديتهم ويجعلهم خاضعين لإرادته تماما. ومع ذلك فمن الممكن القول إن هؤلاء النقاد كانوا محدودي النظرة في طريقة تعاملهم مع الفيلم، لأنه ربما كان عموما مما اعتقدوا، ليشمل كل حركة سياسية أو دينية، تسعى إلى الانتشار حيث ما أن ينضم الفرد إلى أي منها حتى يفقد استقلاله، ويتحول إلى أداة بيد قيادتها فتتغير شخصيته لينسجم مع بقية الأعضاء، ويعتبر كل من هو خارج الحركة وتنظيمها مشبوها ومن الواجب التجسس عليه، أو الإضرار به. وقد درس المختصون في علم الاجتماع والطب النفسي الميول الشخصية للفرد، التي تجعله يميل أو ينضم إلى أحزاب سياسية معينة، ولكنهم لم يكونوا بالنشاط نفسه في دراسة تأثير الأفكار والحركات السياسية على شخصية الفرد المؤمن بها، حيث إنها قد تغير شخصيته تغييرا كبيرا، دون أن تغير شكله، وبذلك فإنه النسخة الواقعية للمخلوق الشبيه في الفيلم.

إن النجاح الملحوظ للأفلام المأخوذة من هذه الرواية منذ الفيلم الأول، الذي عرض عام 1956 جعل تأثيره في الفكر السياسي ملموسا، حتى أن التعبير المعروف في اللغة الإنكليزية Pod People (أناس قشرة البذور) يشير إلى الذين لا استقلال في فكرهم على الإطلاق، ويتصرفون وكأنهم رجال آليون عديمو الشعور في خدمة جهة ما.

في نهاية المطاف يتبادر إلى الذهن سؤال مهم، هل الإنسان مستقل فعلا؟ قد يكون الجواب أن الإنسان على درجة محدودة من الاستقلال مهما ادعى العكس، فالإنسان يطيع القانون لأنه سيتعرض للعقاب في حالة خرقه، ويجد صعوبة بالغة في عدم مجاراة سياسة الدولة مهما كانت درجة اقتناعه بها. ويتبع الإنسان كذلك بشكل عام التقاليد الاجتماعية لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع تقبل الوحدة، ولذلك فإن مقاطعة المجتمع له تضر به ضررا كبيرا من الناحية النفسية والمعيشية. ويطيع الإنسان مديره في العمل وقرارات مكان عمله، لأنه سيفقد عمله في حالة عدم احترامه لذلك. وكل هذه العوامل لا تقلل من حرية الإنسان وحسب، بل إنها تؤثر في شخصيته بشكل كبير. وفي الوقت نفسه، من الممكن القول إن لكل هذه الأسباب قد يكون العالم بأكمله نوعا من التنظيم الكبير.

باحث ومؤرخ من العراق








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي