أجيءُ دون أن يُناديني أحد

2023-06-08

علي صلاح بلداوي

أنا الذي أرى

رأيتُها الليلةَ حينَ مَشتْ بنا طُرقاتٌ واستراحتْ على أنفاسِنا أرصفة

رأيتُها تطلُّ في ضحكةِ صَديقٍ مُفلسٍ يشربُ لامُبالاتهِ

ودندنة عاملِ المَقهى يُبلِّلُ مَللَه بمَسْح النوافذ،

ليست أنيقةً ولا مُدهشة

ليست نادرةً ولا ساحرة

رأيتُها في عودتي إلى البيتِ تومضُ في قَناديلهِ

وسَمعتُها في رنَّة المفاتيح واستدارةِ القفل

رأيتُها في نظّارة أمّي تقرأُ القرآنَ وتهوي من يديها حبّاتُ الطّين

في انحناءةِ أختي على كتاب الصَّبرِ تَحفظ تعاليمه

في إغماضة جدّتي الصاحية وأحلامها تحومُ حَولها

في دُخانِ عَربة أبي الواصِلِ توًّا وهديرِ محرِّكه في جَماجم العالمين،

رأيتها على مكتبي

شهيَّةً ومُغرية

هكذا إذن أيَّتُها الحياة

ظلمتكِ حين قلتُ: إنَّها عسلٌ في خليَّةٍ عند سفحِ جبل

بينما كنتِ حولي

ولم

يكن

عليَّ

سوى

أن

أرى.

■■■

حُكمٌ مؤجَّلٌ سَيحين وقته

مَن الذي سيغفرُ لي خطيئةَ أنِّي تركتُ الحبَّ في القبو منسيًّا

مثلَ أشياءِ العائلةِ التّالفة

وصرتُ قاسيًا مثلَ إزميلٍ ينحتُ في رُخامِ العالَم ولا يؤذيهِ عِناده.

مَن الذي سَيُقدِّرُ أنّي انشغلتُ بحفْرِ القُبور لأعدائي الغُزاة

وبحروبٍ أخوضها في قصائدي وحدي

مَن سيقول: قاومَ حتّى نَسِيَ قَلبَه

مَن سيذكُر: ما أكثر الشظايا التي نَزَفَتها عاطفته؟

أيُّ امرأةٍ ستغفر لي انشغالي عن نَظرتها الماردة

وأنا المشغول دومًا بعللِ العالم ودوائه،

وأيِّ أُخرى سترضى بأنْ تَتَصفَّح قاموسي ولا تَجِد فيهِ فصلًا عن الغَزل

وأنا كلّ فصولي طُغاةٌ وعبيدٌ ألاحقهم ويُلاحقونني.

لستُ عاطلًا عن الحُبِّ

لكنَّه حُكمٌ مؤجَّلٌ سَيحين وقته

وحتّى ذلك الوقت

لا أدري مَن ستقول: مغفورٌ لك.

ولا أدري مَن ستقول: أحسنت.

■■■

طعنات

طعنةٌ، فَيُسكِّنُها بطعنةٍ قديمةٍ ويمضي

طعنةٌ، فيلتفتُ وفي عينيهِ صخور الأسف تتفتَّتُ وحدها

طعنةٌ،

فينهار الجبل.

ما أكثر طعناتكِ يا روح

وما زلتِ تُسكِّنينها وتمضين في غابة الخناجر.

■■■

كتعويذةٍ مَمْحيَّة من على الجدار

غدًا ستلقاكَ الصَّبايا عائداتٍ من نُزهةٍ في الرِّيح

وتُلقي عليكَ السلام أعينُ العابرين من موعدٍ إلى موعد

غدًا، حين يَطبِقُ الدَّهرُ ظهرَكَ مثلَ دفترٍ سَجَّلوا فيه تواريخَ بائسة

ومغامراتٍ لن يَقرَأها أحد

سَتُرْكَنُ عند باب البيت

كتنويمةٍ للزُّقاق الذي يسهرُ وحدهُ دائمًا،

وتُنسَى

كتعويذةٍ مَمْحيَّةٍ من على الجدار.

كلُّ غدٍ عقاب وخذلان

كلُّ غدٍ فِخاخ، وعلى عمىً يمشي الماشون

كلُّ غدٍ نسيان تحوكه العناكب على المقاسات

كلُّ غدٍ خطوةٌ إلى رحى الدهر

ورحاه دَوّارةٌ لا تستريح.

غدًا حين تَقعدُ عندَ البابِ عاجزًا

لنْ يراكَ أحد

سوى أنَّ الدُّنيا كلّها

ستمرُّ عبرك.

■■■

هذا هو البيت، وهذا بابي

كأنَّني الآنَ راجعٌ من جنازةٍ،

تائهٌ ولا طريقَ لي

ثيابي مُتربة ونَعلي بلا خِصاف

شَعري مُوارَى بالمعاوِلِ ووجهي مُغطّىً بالأسى وماء الورد.

من أين أتيتَ يا عليّ؟

أسألُ يدي التي تَصلَّبت وَوجهي الذي لَمحْتُه في خَزْرةِ الأهوال

كأنَّك عائدٌ من موتكَ الغريب تجرُّ حياتكَ المُقفرة

عائدٌ والبلاد التي شيَّعتكَ ليست بلادك

والوجوه التي غادَرَتْكَ لستَ تعرفها

لا كلام الناس، لا أصواتهم، ولا يرونك حتّى.

هذا هو البيت، وهذا بابي

فلا بدَّ أن الموتى

هم من أوصلوني، ولو متأخّرًا

وعادوا.

■■■

من دون أن يُناديني أحد

راقدٌ في شمعدان

ومُستيقظ في مذبحٍ أتلو صلواتي

وجهي تَركتُهُ على مُغتسَلٍ في مَقبرة

وعيوني عالقة في نباتاتٍ فارسيَّةٍ على جدارِ ضريح.

جسدي أسيرُ قِدّيسٍ زاهدٍ يُوقفُ ظُلمةَ صحرائهِ على شمعةٍ ذائبة

وروحي هذا الدّعاءُ الرَّثُ يُقرأ على ألسنةٍ مُحنَّطة.

أترى كيف أنَّني من أسلافِ ذاك الطائر الذي وزَّعوا جَسده على قِممٍ

ونادوه: أنْ تعال!

فجاء،

لكنّه لم يعُد كما كان قبلَ أن يوذِّروه،

هكذا أجيء مجموعًا من قِممٍ وأمكنة

من مشاهد وحَكايا وتواريخ

أجيءُ وحدي

من دون أن يُناديني أحد

وفي كلِّ مرّةٍ

لا أعود كما الذي كُنتُه من قبل.

■■■

كلُّ ما أريده

مُقيَّدٌ بهذا الخوف الجليل

بهذا الترقُّبِ الخافق مثلَ قلبٍ مطعون

بهذه الخشيةِ التي يتعرَّقُ لها ما أُلامسه ويلامسني من خشبٍ وحديد.

أحملُ بيدي مسبحةً من تعاليمَ وتعاويذَ واعتذارات

وبجيبي مُصحَفٌ كلّما أوشكتُ على الخَطأ

قرأتُ منه آيةً تُبرِّرُ توبتي.

كلُّ ما أريده ألّا تصبح نافذتي

جزءًا من جدارٍ يمضغ المحكومين بالإعدام ويتبوَّل عليه السجّان ويمشي

كلُّ ما أريده ألّا يطْلع النّهار على هذا المُنحدر

وأنا مزروعٌ في فراشي تلتهمني الأوبئة

كلّ ما أريده ألّا تطرق نائبة الزمان بابي

ولا أضطرّ مرغَمًا على فتحها.

أرجو ألّا يفوتني أيضًا

ماءٌ تغسل به الحلوة بابها

فلا يبلّل خطوتي.

شاعر من العراق








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي