في حوار مع الكاتبة السويسرية كاترين لوفي: فيروز… رفيقة طقوس صباحاتنا السورية الملهمة

2023-11-15

 شادية الاتاسي

صباح الخير… إنه صباح سويسري بامتياز، بكل أدواته الجميلة، بحيرة ليمان الزرقاء في ظل النهار الخافت الضوء، وبجعاتها في دورانهم الأبدي، مدينة أيفيان الفرنسية تلوّح بالتحية من على الطرف الآخر من البحيرة. ثم جبال الألب الدائمة الثلوج، تذكرنا دائما بشتاءات مثلجة، مقبلة على الأبواب. لكن الطقس الحار اليوم، يبدو هارباً من الصيف، الموشّح عادة بالغيم ورذاذ المطر، لا يبدو سويسرياً ولا لوزانياً! إنه يذكرني بالأيام الحارة من طقس شهر آب/أغسطس في بلدي سوريا. ما يستدعي بالضرورة، تذكيري بغربتي التي بدأتْ هنا. أتابع حريقنا السوري في عالم لا يأبه بوجودنا. لا أعرف إلى متى قد يستمر، آمل ألا أشيخ هنا، وألا يصبح الحنين مجرد جمر متقد.

قلتِ في رسالتك إنك تودين أن تسمعي صوت ثقافة الآخر، الآخر الذي سأمثله، أنا القادمة من بلاد مختلفة الثقافة، أبحث عن الأمان في وطن بديل، أتساءل هل الاختلاف الثقافي يصلح لبناء علاقة إنسانية؟ قد يصبح جزءا مهماً في نجاحها، لكن هناك أشياء أخرى لا تقل أهمية عنه: الفضول، الحدس، الرؤية الإنسانية العميقة والشاملة، ويمكن هناك أكثر، لا أحد في إمكانه التكهن، لكن بالتأكيد، رغبة كل منا في الإطلالة على ثقافة الآخر هي المحفز.

والآن، ما رأيك يا عزيزتي كاترين، أن أدعوك إلى فنجان قهوة تطلين فيه معي على طقوس صباحنا السوري:

على الرغم من أن الحرب الشرسة أحبطت الروح السورية في العمق، لكن كنا وما زلنا شعبا عاطفياً، نوستالجياً، نحب أن نبدأ صباحنا الصيفي ببطء؛ نشرب قهوتنا على مهل، يشرح القلب منظر جميل، وينعش ذائقتنا صوت شجي، اعتدنا أن تكون فيروز المغنية اللبنانية، رفيقة صباحاتنا، كبرنا وصوتها المخملي يسكن ذاكرتنا وتاريخنا وثقافتنا، ولا أبالغ في القول إن صوت فيروز يسكن الذائقة العربية، على امتدادها من سوريا ولبنان وفلسطين ومصر والأردن، وصولا إلى الجزائر وتونس والمغرب، نجحت أغانيها في أن تكون جسرا ثقافيا بين الأجيال من جهة، والشعوب العربية من جهة أخرى. كانت هي الصوت الملهم لعائلتها الموسيقية الشهيرة التي سميت (الرحابنة) كان منهم الموسيقي والملحن والشاعر، أشهرهم الأخوان عاصي ومنصور الرحباني، نجحوا في أن يكونوا رموزا للتفرد والإبداع في الموسيقى العربية، وأن يمزجوا بين العناصر التقليدية والحديثة بطريقة فريدة، ما جعلهم مصدر إلهام للشباب الباحثين عن تجربة جديدة ومبتكرة، وتركوا بصمة عميقة في عالم الموسيقى، والغناء والمسرح والشعر.

غنت فيروز للوطن، للحب، للإنسان، للحنين، للمطر، للطفولة، للسلام لكل شيء، بعمق وبساطة وجمال تلمّس عوالم النفس الإنسانية، كان سرها أن أغانيها جمعت بين الكلمة الشعرية، واللحن المميز والأداء الرائع. زارها الرئيس الفرنسي ماكرون، في بيتها عندما جاء لزيارة لبنان عام 2020 تقديرا لها ولفنها. وقال عنها بوب ديلان الفائز بجائزة نوبل للأدب، بأنها صوت الأمل والسلام في الشرق الأوسط. واعتبرها إلتون جونز من أجمل الأصوات في العالم، والكثير مما لا يتسع المجال لذكره.

نعم، عزيزتي كاثرين، صحيح أن الحرب الشرسة شجت الروح السورية، وتركتها في حالة عطالة، ربما كلمة عطالة لا تعبر كثيرا عما حدث، كلمة كسر، تبدو التعبير الأصح، الكسر العميق الذي يحتاج للكثير من الصبر والعمل والوقت كجرح ليلتئم، ونستعيد بعضاً من مجد قديم عاشته بلدنا حقبة من التاريخ. لا يمكن لأحد أن يتجاهل أن حضارة عريقة موغلة في الزمن قد شيدت صرحها فيها. يكفي ذكر أن دمشق هي أقدم المدن المأهولة في العالم حتى اليوم، وأنها شهدت العديد من الإمبراطوريات والحضارات القديمة، الحضارة الفينيقية والآرامية وغيرها، ما شكل مركزا حضاريا رئيسيا في العالم القديم والحديث، ما زالت جدرانها تحمل العديد من القصص والتحولات التاريخية، تحكي عنها المدن والمواقع القديمة والآثار، التي ما زالت موجودة حتى اليوم، في البازارات والمساجد والكنائس والحمامات.

عزيزتي كاثرين، قلت إنك استطعت أن تقرأيني، وتعرفتِ على جزء مني ومن تاريخي، من خلال رسالتي التي حدثتك فيها عن بلدي والحرب المؤلمة التي دارت فيها وأسبابها، ما جعلنا نحن السوريين نلجأ إلى بلاد العالم، طلباً للأمان. ولهذا السبب أنا هنا في هذا البلد الجميل سويسرا. وكما أنا مُدِينة للمشروع الثقافي الإنساني الذي جمعنا écrire encore، أنا مدينة أيضاً للرسائل المتبادلة بيننا، التي تكشف لي جزءا مهما من روحك ككاتبة وباحثة وصحافية، وما تمثلينه لثقافة بلدها. مدينة لك شخصياً عزيزتي كاثرين، وأنت تتحدثين بوضوح عن التاريخ السويسري، الذي كان بعضه غامضاً بالنسبة لي، تحدثتِ عن بعض المشاكل، التي كان من الممكن أن تحدث فجوة بين السويسريين: أولها اللغة، سويسرا تتكلم ثلاث لغات مختلفة. ثم الاختلاف في العادات والرؤية، وقلت من حسن الحظ إن هذا توقف عند حدود الاختلاف، ولم يتعداه إلى التناحر كما حدث في عام 1847 في ما سميته حرب سوندربند، التي أدت إلى صياغة دستور 1848، أسفرت عنه سويسرا الحديثة، كدولة مركزية قوية، مع إعطاء الكانتونات الكثير من الصلاحيات.

اسمحي لي الآن أن أحكي عن صداقتنا الحلوة، التي لم تبق حبيسة الرسائل فقط، لقد كسرنا الحاجز وخرجنا منها إلى الهواء الطلق. ففي يوم غائم ينذر بمطر على أهبة الهطول، انطلقنا معا، من مدينة فيفي Vevey، أخذنا الطريق السريع الذي يقود إلى الحدود الإيطالية، ومن ثم تركناه، وبدأنا الصعود في الطريق الجبلي الزلق المليء بالمنعطفات المرعبة، ما جعل ضربات قلبي تدق بسرعة، وارتفاع منسوب الادرينالين في دمي إلى حد كبير، لكنك كاثرين الشجاعة ابنة المنطقة وصديقة الجبال، أزلت الروع عني، بإحساسك وشفافيتك وقيادتك الأنيقة، ما ترك لي المجال لأتأمل هذا الجمال الراسخ الذي يفتح أمام من يرغب مشروعا كاملا للعزلة، مكانا قد يكون موحياً وملهماً لكاتبة مثلك، ولكل من يحب أن يكتب بعيدا عن ضجيج العالم. ببساطة لقد أمضينا نهارا رائعا، على علو 1500متر، رغم الغيم، وشغب المطر ومراوغته، ما بين الانهمار بكثافة، وأحياناً ببطء ونعومة، وتارة تصفو السماء وتضحك لنا، ورغم عثرات اللغة التي راوحت ما بين الإنكليزية والقليل من الفرنسية. وبعض الكلمات العربية التي أحاول أن أعلمها للك، نجحنا في أن نجعل منه نهاراً مميزا مليئا بالحميمية. شربنا القهوة، تجولنا، تحدثنا في أشياء كثيرة مختلفة، لا أعرف كيف كانت تتدفق الأفكار، فكان الحديث مثيرا وشيقا، تحدثنا عن أهمية الحلم والقدرة على التخيل، عن الزمن، الانفعالات، الألم والحب والفرح، عن نكهة التجربة الأولى، براءتها وعذوبتها وهشاشتها.

أخيراً، أود القول، أو هكذا أشعر، بأنه وفي تلك المسافة الخفية ما بين الحنين للوطن والرغبة في الانتماء للوطن البديل، تبدو لي سويسرا الجميلة دائماً، في مكانها الثابت، تحمل تاريخها السري ما بين اللذة والألم، متكبرة، ملهمة، كتومة لا تعطي نفسها بسهولة، ولا تفصح عن الهدير الذي يغلي داخلها.

أجل سنبقى نتحدث ونتبادل الرأي عن رؤيتنا للحركة الثقافية، وما يحدث إن كان داخل بلدينا أو خارجهما، فالعالم اليوم أصبح قرية صغيرة.

كل المحبة والود الذي أرجو أن يدوم.

كاتبة سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي