ما للتأويلية وما عليها: محمد بازي يقترح بلاغة الوجود الدالّ

2023-12-16

حاوره: عبد اللطيف الوراري

امتداداً لمشروعه التأويلي الذي كان يتطور عبر ثلاثة نماذج أساسية: أنموذج التساند والتطالب في كتاب «التأويلية العربية: نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات» (2010) و«صناعة الخطاب: البنى العميقة للتأويلية القرآنية» (2015) والأنموذج التأويلي التقابلي في كتاب «تقابلات النص وبلاغة الخطاب» و«نظرية التأويل التقابلي» (2013) و«البنى التقابلية: خرائط جديدة لتحليل الخطاب» (2015)، ثم أنموذج تأويلية الأنوال الاستعارية كما في كتاب «البنى الاستعارية: نحو بلاغة موسَّعة» (2017)، يسعى الباحث المغربي محمد بازي إلى توسيع مجال عمل البلاغة وإغناء نظرية صناعة الخطاب وتعزيز الأسس الفلسفية التي تتحقق بها، ما يجعل من هذا المشروع محاولة جديدة للإسهام في بناء هوية التأويلية المعاصرة من منظورِ علوم فهم الخطاب وتأويله، وأنموذج تناغم التأويلات مع حقيقة الوجود الدال، كما يظهر ذلك في مؤلفاته الثلاثة الأخيرة: «كيف نبني العالم بالخطاب؟» (2021) و»البلاغة الكبرى: نحو نظرية وجودية لصناعة الخطاب وتأويله» (2022) و»التأويليات الجديدة: من مناط الحدود إلى بساط الوجود» (2023).

نستأنف معه الحوار في بعض المسائل الجوهرية التي تهمّ هذا المشروع الذي صار يتعلق بأفق «البلاغة الكبرى» من خلال البحث عن بلاغة للوجود الدال، سواء في علاقته بالبعد المقاصدي، والعلوم المجاورة له، وإشكالية التوسيع، والرؤية للخطابات البليغة من منظور وجودي وأخلاقي.

كثرت الدراسات التي تهتمُّ بالتأويل، ولكن معظمها إما مُفْرط في التأويل أو مُفرّط فيه. ما حدود التأويل، وتأويل الخطاب البليغ تحديداً، لدى مُحلّل الخطاب بهذا المنهج أو ذاك، بما في المنهج التقابلي الذي تقترحه في أبحاثك؟

عندما تكثر الخسارات التأويلية وتعم الفوضى، وينتشر العمى التأويلي والعَمَه النقدي، والعَمَه هو فقد البصيرة ـ أما العمى فهو فقْد البصر، ولنبدأ بفقد البصر، أو حاسة البصر لدى مؤول الخطاب، ونعني بها الافتقار إلى أدوات التأويل وفلسفته والخبرة به، وهي كلها داخلة في باب الأدوات الضرورية للمؤول، وقد سميناها في «التأويلية العربية»: كفايات المؤول، وهي: الكفاية الافتراضية (تقديم افتراضات واقعية أو مقبولة لمعطى مؤَوَّل)، والكفاية التجميعية (القدرة على تجميع الموارد الضرورية لبناء الفهم من معارف موسوعية ومعلومات ومقابِلات نصية)، والكفاية التأويلية (القائمة على تملك خبرة تخريج المعاني والترجيح بينها وتملك ذائقة الفهم لطول الخبرة بميدان التأويل)، والكفاية التنسيقية ونعني بها مطاوعة أدوات تحرير الفهوم، وتنسيقها وترتبيها بصورة بليغة مقنعة حتى يفهمها القارئ وينتفع بها. وفي هذا تجميع ما اشترطته التأويلية العربية الإسلامية في مؤَوِّل النصوص الدينية والأدبية. والحال أن المؤَوِّل لا يبلغ هذا المقام إلا في مدى زمني بعيد، وبقدرات استثنائية في تلقي العلوم والربط بينها وحسن استثمارها. وهذا ما نطمح إليه عند ممارسي التأويل الأدبي ومحللي الخطابات، حتى نرقى بممارستنا التأويلية إلى مصاف الـتأويليات العالمة البليغة.

لنعد الآن إلى ما سميناه «العمه التأويلي» وله تعلق بالبصيرة لا بالبصر، هذا النور التأويلي المتدفق من حالات خاصة مثل، الإحساس بعلاقة الإنسان بخالقه وبالوجود، يتكون بالتأمل العارف في التجربة الوجودية للسابقين واللاحقين، وبالاستمداد من نورانية خطاب الله للإنسان، ونتاج الحكمة من التجارب الشخصية الدالة وملاحظة مجريات الحياة وعبثيتها وأوبة كل ما فيها إلى زوال. ينتج عن هذا مقام الحكمة المبصرة التي تتحول إلى معان وفهوم ومواقف من خطابات الآخرين وقياس درجة مقبوليتها وتناسبها مع التجربة الوجودية المحدودة التي يعيشها الإنسان.

ما هي حدود هذه التأويلية البلاغة واشتراطاتها في علاقتها بتحليل الخطاب ومدى تناغمها مع ما تحيل عليه من سنن وعوالم؟

نقصد بهذا أن التأويلية البليغة المشار إليها هي تأويلية وجودية، تأويلية لا تحتكم فقط إلى ما نرغب في قوله، أو نرغب أن يقوله الآخرون، أو ما ينبغي أن يفهموه، وإنما ما ينبغي أن يكون وَفْق ما أريدَ لنا لا ما نريده نحن فحسب. لقد سمينا هذا قانون التناغم مع السنن الكونية؛ ذلك أن تحقيق التناغم في صناعة الخطاب، مع ما ينبغي قوله، وبكونه مجزيا لصاحبه، داخلا في ما يثاب عليه، فتلك هي حقيقة الخطاب البليغ، ومرجعيته تأويلية إيمانية عارفة قاصدة موجَّهة بمرجعية واضحة وبأفق معلوم لما يؤول إليه خطاب كل واحد من المراقبة، فما يلفظ المرء أو يكتب إلا عليه رقيب عتيد، خاضع للمساءلة والمحاسبة، وإنها إن تكن مثقال حبة من خردل في صخرة يأتي بها الله. تشترط التأويلية البليغة أن يحقق الخطاب بالصورة السميائية الموسعة المشار إليها، التناغمَ مع السنن الكونية الوجودية وَفْق ما عرفناه وتحققنا منه بما لدينا من العلوم النقلية والعقلية والتجربة، وتقويم منظورات البعد الدنيوي القريب، لكن ذلك لا يكتمل على الوجه الصحيح والمقنع إلا بعد تحقيق شرط آخر وهو التناغم مع الضوابط التأويلية العلمية، التي تنطلق من مكتسبات علوم اللغة والبلاغة والنحو، وعلوم النص والسياق والتاريخ. أما الشرط الثالث فهو احترام التوافق مع قواعد الانسجام التأويلي ومقبولية التخريجات ودقة الانتظام والقوة الإقناعية.

في كتابك «كيف نبني العالم بالخطاب»، تدعو البلاغيين ومُحلّلي الخطابات إلى توسيع مجال عملهم. هل يعني هذا الأمر أن محمد بازي يـتأفّف من «فوضى» التأويل، ويقترح بلاغة جديدة تحرر الدرس البلاغي من الاجترار والتكرار والتقديس؟

نعم، الثبات في مناهج تحليل الخطاب أمام ما تعرفه نماذج الخطاب الواقعية من تغير يُعَدُّ توقفا في علوم الفهم والتأويل، هناك حاجة مستمرة إلى الاجتهاد، إلى توسيع مجال المفاهيم لتطول الظواهر السميائية التي يقوم عليها رواج المعنى، وتدفُّق الدلالات. ولكن ماذا نعني بالضبط بهذا التوسيع؟ إنه توسيع منظورنا الفلسفي لعلاقتنا بأدوات إنتاج الخطاب وأدوات فهمه انطلاقا من رؤى جديدة وزوايا نظر معمقة استفادت من إرث تأويلي ومنهاجي نقدي، وقارنت بين أدوات عديدة في التأويليات القديمة والحديثة، واستحضرت بُعد الهوية الوجودية في الفهم والـتأويل، وربما قدمت نقدا لتصورات الأنساق التأويلية المغلقة، التي لا تستوعب معاني الوجود الإيماني، وحقائق الغيب والقيم والأخلاق، وتنطلق من فلسفات عدمية دنيوية بائدة ومتجاوزة. نعم، كل هذا مطلوب وبتعددية في النماذج والاقتراحات التي يمكن أن يقدمها البلاغيون والسميائيون وعلماء التأويل في هذا المجال. غير أن هذا التوسيع التجديدي لا بد من أن ينطلق من العلم بحقائق الظواهر السميائية التي يشتغل عليها، وأن لا يكتفي بالحضور الفلسفي أو الأيديولوجي الحاد، لأن ذلك يكون معرضا للنقد والرفض في أول الطريق. إن الذي يصمد حقا هو العلم وحقائقه التي تعني الكليات المستخلصة بالدراسة والاستقراء أو القوانين المطردة المستخرجة بدراسة الأشكال السميائية اللغوية واللسانية والبلاغية والإيقاعية، فلا يتم الفهم مثلا خارج ضوابط علم اللغة، والضوابط التي وضعها العلماء بالتفسير، أو التأويل خارج قواعد علم النحو، أو خارج ضوابط علم البلاغة، أو علم الإيقاع، أو ما تم الاتفاق عليه في تأويل الرموز والعلامات بصورة عالمية وفي كل الثقافات.

لكن رغم هذا الطابع «العلموي» الذي تنشده في الاشتغال على تأويل الخطابات، لا يمكن أن يقطع مع حرية الاختلاف وجواز التعددية التأويلية؟

صحيح أن كل علم من هذه العلوم، بل كل قانون من علومها، يقبل الاختلاف فيه، والدفاع عن تصورات خاصة واجتهادات. لكن هناك حد أدنى متفق عليه، فلا يمكن أن تسمي الخبر مبتدأ والمبتدأ خبرا، أو اسم الفاعل بأنه اسم مفعول، أو اسم كان كأنه اسم إن، أو الاستعارة على أنها طباق، أو المقابلة على أنها كناية، أو أن البحر في اللغة يقصد به الجبل، والجبل يقصد به النهر.. وبالتالي فإن التأويلية وإن ظلت قابلة لاختلاف الفهوم وتباينها، وذاك طابعها وميسمها، لكن من السهل تبين التأويلات المقبولة من غير المقبولة. قديما كان العلماء يهابون التأويل والتفسير لما يعلمون من كثرة العلوم اللازمة لمن يشتغل به، وما يتعلق به من العدة والجهد، فهم يحرصون على عدم تقويل النصوص ما لم تقله، أو ما ليس مقبولا من التأويلات والفهوم، فكان عملهم يتسم بالحذر العلمي، وبالاجتهاد في الانتفاع بأقوال السابقين، وفي مقاربة الفهوم الجماعية، والدفاع عن التخريجات التأويلية، أو على الأقل عرضها على المتلقي حتى يكون شريكا في استنباط حكم، أو تحرير معنى مقبول. واتسم عمل الراسخين منهم بسعة الأفق التـأويلي عبر تجويز أكثر من تخريج، فيقولون: ويجوز كذا، وقالوا كذا، وقال غيرهم كذا، أو الله أعلم. حرية الاختلاف وجواز التعددية التأويلية يأتي بعد استفراغ الجهد، وتحصيل العلم، وسعة الاطلاع. لا قبل ذلك، إن الاختلاف سمة إيجابية في التأويلية العربية الإسلامية، بل تجد المؤول الواحد يستعرض أقوال من يخالفه الرأي والحجة، ويستعرض كل ذلك في معرض حديثه وكأنه يضع القراء أمام الصورة الكلية للاختلاف ومناهجه ونتائجه. من هنا أدعو إلى تأويلية عالمة منفتحة تؤمن بالخبرة التخصصية وبالجهد والإبداعية، وهي التأويلية التي تبني لها وجودا فعليا حقيقيا، لأنها قائمة على ركائز علمية قوية وفلسفة تأويلية ناضجة، فلا يمكن أن تقارن بين تأويل الزمخشري أو الرازي أو الطبري للفاتحة الكريمة، وتأويل محمد أركون مثلا. فالجدة الزمنية لا تعني الدقة والنجاعة والعمق، ولذلك تظل النماذج القيمة راسخة وقوية ويكون مآل كل تأويل لا يحترم ضوابط التأويل وقواعده – سواء تعلق بالنص الديني أو الأدبي أو القانوني – هو التلاشي والتبدد طالما لم يحترم ضوابط الاختصاص التأويلي الدقيق الذي يندرج فيه.

عندما نعود إلى قضية التوسيع، تُطرح مثل هذه الأسئلة: ما الذي يدعونا فعليا إليه؟ وعلى أي مدى يتم ذلك؟ وما هي الأمثلة الدالة على قابلية المفهوم لذلك التوسيع؟ وما الفائدة منه؟ أي ماذا سنجني من توسيع المفهوم معرفيا وتأويليا؟ ما مردوديته في بناء نماذج تحليلية وتأويلية ينتفع بها محللو الخطاب وتسهم في تطوير الأفكار الأدبية؟

عندما نتكلم عن التوسيع، فحن نقصد به التوسيع الخاضع لنظام دقيق وحسابات منهجية ونقدية، وليس للهوى أو الادعاء أو التأميل. ومعنى هذا أن هناك مفاهيم قابلة للتوسيع، وأخرى لا ينجح فيها ذلك، لأنه يغير ممكن عمليا ولا يمكن إقناع الناس به. يمكن أن توسع مفهوم الأدب، ومفهوم الاستعارة، ومفهوم الخطاب، ومفهوم التقابل، ومفهوم التناغم، ومفهوم التأويل ومفهوم البلاغة مثلما فعلنا، يتطلب الأمر إذن، اطلاعا مدققا على تاريخ المفهوم وتطوراته وتجلياته وممكناته، وعلى ما يزعم المنظر أنه مشكلة معرفية، أو عائق جديد في تاريخ المفهوم، أو عدم شموليته. ويتم تأسيس ذلك تأسيسا إشكاليا، بناء على فرضيات، وعلى متغيرات مستقلة ملحوظة، وأخرى تابعة متوقعة أو منشودة. وعلى بناء منهاجي تحققي، يتم فيه اختبار مجالات التوسيع وقياس مدى التطابق بين فضاءاته القديمة والفضاءات الجديدة المحررة أو المكتسبة بالتأمل والبحث ومطاوعة الحقائق للفرضيات. فإذا تحقق كل ذلك، فإن المنظر مدعو إلى بناء أنموذجه النظري على صورة خطاطات واضحة، ومعالم منهاجية قائمة على التراتبية والمقبولية والانسجام والفعالية والتماسك، وعلى القدرة على فسح المجال للمتلقين من ذوي الاختصاص بتجريب المنهاج الجديد، والرؤية المقترحة في بناء المعاني ودراسة الخطابات. علينا أن نقر بأن الانتفاع بأي أنموذج تحليلي لا يتم خارج شرط الاختصاص والبحث وجهد الاطلاع. وأنت لا تستطيع مثلا أن تستوعب المنهج السميائي، وتضبط آلياته إلا بعد سنوات عريضة من البحث والقراءة والتفهم، ولا يتم ذلك لأي كان، بل للدارس الحصيف المجتهد. ولذلك لن يستطيع المتسرع تمثل النماذج التحليلية الجديدة لأنه ألف السهولة في بلوغ النتائج، وإذا قرر اعتماد الأدوات المقترحة فإنه يمر على الخطاب كما يمر الذئب بين الزرع الكثيف، إنه لا يحصده ولا يدرسه، ولكنه سيدعي أمام كل من يجده في طريقه أنه مر بالحقول الخصيبة، والغلات المتمايلة، والسنابل العجيبة. فلا هو انتفع ولا هو نفع.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي