بعضهم أحبّ الضحك… حتى في الحروب!

2024-01-21

حسن داوود

لم يروِ إريش فريد مذكّراته على النحو الذي اتخذه كتّاب سبقوه أو جايلوه. لم يقل شيئا عن نفسه كاتبا، ثم إنه أشرك آخرين كثيرين في تلك القصص التي عاشها في سنوات أوروبا الأكثر دموية وقساوة. أول هؤلاء كانت جدّته، وقد بدأ معها قصته الأولى، واصفا كيف نجت من الولادة في ما لم تنجُ شقيقتها. حادثة مثل هذه لم تكتب بلغة الخسارة أو المأساة، لأن أكثر ما يتذكّره الكاتب هو أن خاله التوأم جلس على المقعد الذي كانت قد وُضعت عليه المولودة الحيّة، مبرّرا ذلك بأنه ظنّ أنها شقيقتها الميتة. وهذه الجدة حاضرة على الدوام في الكتاب، لوحدها او مع آخرين بينهم هو نفسه. لكن، في ما خصّ اهتمامه بكتابة المذكرات فيمكننا أن نقول، إنه كتب لأنه كان هناك، حاضرا ليرى الوقائع الطريفة، بل المضحكة والغريبة أحيانا، في حقبة الاحتلالات والحروب والمحارق.

هي النمسا في السنوات التي سبقت الحرب. بعد المرور السريع على سنوات طفولته وفتوته يتوسّع فْريد في سنوات مراهقته التي شهدت غليانا سياسيا، تُوّج باحتلال ألمانيا لبلده النمسا، واندلاع الحرب العالمية من ثمّ، لكن ما يرويه عن ذلك الزمن حكاياتٍ بسيطة لكنها، مع ذلك، تزعزع أفكارا وقناعات عملت سياسات وآداب وفنون (بينها السينما الأمريكية اليهودية تخصيصا) على ترسيخ صور ثابتة لأولئك الذين صنفتهم في خانة «الشعوب العدوّة» لم تحِد أفلام الحروب قيد أنملة عن الرسم الذي رُسخّت به صورة الألماني المحارب. إنه هو نفسه على الدوام، متطابق مع السمت القليل الذي يظهر فيه بثياب الجندي الألماني، مقاتلا وسيما ومدربّا، لكنه مهزوم على الدوام. لا يضحك أبدا، لا هو ولا قائده ولا أيّ من النماذج التي استنسخت عنه، فيما المحارب الأمريكي هو البطل المخلّص الذي نحبّ أن يخلّصنا، بل الذي نحبّ أن نكونه. ولنضف إلى ذلك صورة ألمانيا التي أُكسيت، بشرا وبلدا، بصور جعلت أجيالا ترى فيها أمكنة لا تصلح للعيش.

بدا الكاتب إريش، في مذكّراته، مصحّحا للأفكار والتصوّرات الراسخة وكاسرا للتنميط الذي يقسم العالم بين الحرّ والمستعبِد، مثلما يقسّم البشر بين حدّي الصديق والعدو. في المدرسة الفييناوية كان الطلاب مختلفي الأهواء السياسية، ملتحقين بالأحزاب المهيمنة آنذاك من شيوعية ودينية ونازية. ولم يكن ذلك الالتزام موافقا لما يمكن أن يستخلص مما خلّفته الروايات الحربية. ففي المذكّرات، أو الحكايات، نقرأ عن اعتناء الطلاب بتجميع الملصقات السياسية (البوسترز) على نحو ما يُعتنى بتجميع الطوابع البريدية. هي هواية نشأت في زمن ازدهار الملصقات وكان الهاوي فيها، رغم وجهته في السياسة، يحرص على أن تحتوي مجموعته ما تصدره الأحزاب كافّة، بل كان هؤلاء يبادلون ما لا يحتاجونه، مع زملائهم، بملصقات لا يمتلكون نسخا منها. وفي المذكّرات نقرأ كيف أن الطالب من شبيبة هتلر كان يبادل زملاءه ملصقات نازية بأخرى شيوعية، وهذا فيما التياران السياسيان يستعدّان لخوض الحرب الأكثر ضراوة في التاريخ.

وهناك حكاية عن مسؤول شبيبة هتلر الذي راح يجمع التبرعات لزميله اليهودي «بابانيك» العاشق ليمكّنه من الهرب مع حبيبته «روت» والزواج منها من ثمّ. وإذ كاد الانقسام السياسي يؤدي إلى انفصال الشبيبة كل عن محبوبته، إن كانت يهودية، بعد أن أقرّ قانون نورنبرغ ذلك بالفعل، شاع بين الشبّان التداولُ بجملة تقول «إن اليهوديات لسن يهوداً.

حكايات كثيرة يرويها الكاتب عن انشغاله، بعد انتقاله للعيش في لندن، وهو في عمر السابعة عشرة، إلى مساعدة الكثيرين على الانتقال إلى هناك. كان يعمل في إحدى الوكالات التي تعمل على تنظيم هذه المغادرة ويكتب، إبان ذلك، كل ما يرافق ذلك من خطر الانتقال، أو من جرائم طالت أولئك الذين لم تتسنّ لهم المغادرة. من ذلك مثلا حكاية المدعو لازار، المصاب بضعف فادح في البصر، وبعد أن جٌرّد من نظارته وهو على الباخرة المتجهة إلى فلسطين، لم يعرف أين هو اتجاه الأمام الذي راح يدعوه الجندي إلى السير فيه، فقضت عليه رصاصات الجندي. لن يصمد الضحك طويلا بالطبع، وها هو إريش فريد يعنون كتابه بما يدلّ على أن الضحك كان يحدث «أحيانا» وقليلا. كما أن الضحك كان شاذّا عن مجرى ذلك الزمن، وفي الغالب كانت تحبطه النهايات التي إحداها موت الجدّة مختنقة بالغاز، على الرغم من كونها مسبّبة للضحك على مدار سنوات عيشها وعيش حفيدها من بعدها.

«وكنا نضحك أحيانا» كتاب يوميات أصدره الشاعر والكاتب النمساوي إريش فْريد. في التقديم للكتاب صفحات احتوت على قصائد في السياسة ولغتها المخاتلة والكاذبة، بعضها عن حرب 1967 العربية الإسرائيلية. في السياسة تلك صدر له كتاب عنوانه «إسمعي يا إسرائيل». وكتاب آخر بعنوان «حرية فتح الفم». الكتاب الصادر حديثا بالعربية (2024) نقله عن الألمانية سمير جريس في 252 صفحة عن «دار صفصافة».

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي