الكاتب النرويجي جون فوس: الأهم في مسرحي ما يتم التعبير عنه من خلال الصمت النشيط

2024-02-06

كوليت غودار | ترجمة: عبدالله الحيمر

المناظر الطبيعية في النرويج تشبه كتابات الكاتب جون فوس، رائعة وقاسية. لقد مرّ هذا البلد بقرون طويلة من الفقر، وهو بلد في شمال أوروبا يعاني من فصول الشتاء شديدة البرودة والرطوبة والظلام. وكل هذا الجمال محسوس في هذا الكون الذي أنشأه هذا الكاتب، كون منفصل، فخم، بلغة يتحدث بها فقط 10% أو 15% من النرويجيين، النرويجيين الجدد.

في كل نصوصه هناك نوع من الاستقلالية في النص، فهناك قصة، ولكننا لا نشعر بالتشويق، كما هو الحال في المسرح، علاوة على ذلك، لدينا أحيانا الخاتمة التي تصل بالمقدمة. ليس من نظام السرد، سرد قصة، بل على العكس من ذلك فهو يلعب بشكل أكبر في سرديته الإنسانية. فالقارئ أمام نصوصه، حر تماما في أن يحلم، وأن يفعل ما يريد بهذا التكرار. من مسرحيته الأولى «شخص ما سوف يأتي» في عام 1992، إلى أعماله الأخيرة، يواصل استكشاف الحلاوة المأساوية للغياب، ومواجهة ما لا يمكن تحديده، إنه ببساطة صوت ما لا يوصف، فكان معه هذا الحوار .

متى بدأت الكتابة؟

في البدايات الأولى، كانت المحاولات لكتابة كلمات لأغان قصيرة، كان عمري حوالي اثني عشر عاما. كما كتبت قصائد وقصصا قصيرة. بالطبع، كانت سيئة للغاية حقا. لكن حسنا، هذه قصة أخرى. ثم عندما توقفت عن الموسيقى نهائيا، أخذت الكتابة مكان الموسيقى في حياتي الأدبية. وكانت الكتابة بالنسبة لي محاولة للهروب من أعماق نفسي، والبحث عن هشاشة الوجود .

ماذا كنت تتوقع من الكتابة؟

أنا ببساطة أحب الكتابة. الكتابة أخذتني إلى مكان آخر. في روايتي القصيرة الأولى، كنت ما أزال في المدرسة الثانوية، وتأثرت بشدة ‌بالكاتب النرويجي بتيرجي فيساس، لدرجة أنني أصبحت معجبا حقيقيا له. علما بأن أي أحد من قبل لم يقرأها، لكنني أعتقد أنها لا تزال لديّ بين أوراقي الخاصة في مكتبتي المنزلية.

لقد كتبت روايات، قصائد، مقالات، ويبدو أن المسرح جاء عن طريق الصدفة؟

نعم، يمكنني قول ذلك. في ستراندبارم، كانت الفرص نادرة، وهذا أمر مؤكد. لكنني كنت أقرأ كثيرا. عندما غادرت إلى بيرغن، ذهبت إلى المسرح، وبالطبع في أوسلو. خلال رحلاتي، حضرت بعض الإنتاجات الضخمة. لكن معظم العروض التي رأيتها كانت سيئة. لم أكن في الثلاثين من عمري عندما توقفت عن الذهاب إلى المسرح. روايتي الأولى، «الأحمر والأسود» (1983) التي كتبتها عندما كنت في العشرين من عمري، نشرت في شتاء عام 2003. ولكن كان هناك غيرها خلال الثمانينيات، «الغيتار المغلق» (1985) «كآبة» (1995). وكذلك مجموعات من القصائد. كنت حينها لا أفكر مطلقا في المسرح. في الواقع، كانت فكرتي أن أتمكن من العيش من كتاباتي، بحرية كاملة. وأنا فخور بأن أقول إنني حققت ذلك، ولكن كمؤلف مستقل، دون دخل منتظم، أمر أحيانا بحياتي بفترات ينقص فيها المال. خلال إحدى هذه الفترات، عرضت عليّ وظيفة، كان الأمر يقتصر فقط على تقديم كتابات لبداية مسرحية ما، بالإضافة إلى ملخص للجزء الثاني عنها. قلت نعم. من أجل الحصول على المال لأعيش بكرامة من كتاباتي، لذلك جلست إلى مكتبي، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أتعامل فيها مع هذا النوع من العمل الأدبي، وكانت أكبر مفاجأة في حياتي ككاتب متفرغ. في الواقع شعرت بأن هذه الكتابة هي من أجلي. بدا لي الأمر جليا! من الكلام إلى الصمت، بدا الذهاب إلى حيث أردت أسهل بكثير من النثر أو الشعر! لذا، نظرا لأن تلخيص العمل لا يمكن أن يكون سوى مزحة، أو ما هو أسوأ من ذلك، فقد قررت أن أذهب إلى نهاية القطعة. إنها مسرحية «»شخص ما سوف يأتي» في عام 1992، التي تغيرت فيها التقنية فقط، وساعدتني على التحرر واكتشاف عمق آخر لم يكن متاحا لي خلال كتابة الرواية أو الشعر، هكذا خرجت مسرحياتي الأولى للنور، وتلاها عدد كبير من المسرحيات التي استمررت في كتابتها على مدار نحو 15 عاما.

في تلك اللحظة بالذات، ماذا يعني المسرح لك؟

كما قلت لك سابقا، لم أكن ذاهبا إلى هناك؛ لذلك، كان يمثل بشكل أساسي نوعا أدبيا، لقد قرأت الكلاسيكيات اليونانية، التي أحببتها حقا، وكذلك راسين، الذي ترجم إلى النرويجية، وبالمثل لوركا؛ تشيخوف، ثم بيكيت. أنا معجب بكتاباته، خاصة مسرحية في «انتظار غودو».. بعد سنوات، بدأت أرى في المسرحي بيكيت ما يشبه رساما جيدا للمسرح، وأخذت عنه فكرة رسم الفكرة نفسها مرارا وتكرارا من زوايا مختلفة، وأراه في هذا المجال ليس مؤلفا حقيقيا كتشيخوف على سبيل المثال. إنه لا يترك المسرح يتحرك بحرية وبديناميكية فعالة.. ولكن مع ذلك ما زلت أحب روح جمله. سيظل أسلوبي المسرحي أدبيا… لأسباب مختلفة، كتبت مسرحيتي «شخص ما سوف يأتي» الأولى في عام 1992، وكانت بمثابة أعظم اكتشاف في حياتي الكتابية، وكانت ثاني أعمالي المسرحية التي تقدم على الخشبة. فيما كانت مسرحية «ولن نفترق أبدا» من إخراج كاي جونسون أول مسرحية يتم عرضها على المسرح الوطني في بيرغن في عام 1994.

هل حقا اكتشفت المسرح في هذه المناسبة؟

يمكننا قول ذلك. حضرت واحدة من البروفات الأخيرة. على الرغم من المشاكل المختلفة، كان الإنتاج قادرا على الصمود. وكان يستحق ذلك! مع الكثير من اللحظات الجميلة والحزينة. تلك اللحظات السحرية للمسرح… المسرح، نعم، أعتقد أنني اكتشفته في هذه المناسبة. وأيضا، بالنسبة لشخص اعتاد على العزلة العالية للمؤلف، اكتشفت إلى أي مدى روعة المشاركة التي يتم من خلالها صياغتها بهذا الشكل الرائع .

عندما تكتب، هل «ترى» شخصياتك؟

لا على الإطلاق، دعنا نقول فقط أستطيع أن أستمع للأصوات وهي تتشابك في ما بينها على خشبة المسرح. ولكنها تتجسد فقط من خلال لعب الممثلين على المسرح. إن الممثلين هم من يصنعون الشخصيات الحقيقية للمسرحية، وليس أنا. بالنسبة لي، إنها الكتابة، أي تجربة جديدة دائما، ومعرفة تتجدد باستمرار على أجواء خشبة وكواليس المسرح. رحلة إلى المجهول، عندما أقرأ نفسي، أحتاج إلى صدمة المفاجأة؛ وإلا فهذا يعني أنه سيئ جدا ككتابة.

في فرنسا، نتحدث عن «كتابة الصمت» وعن مبدأ التكرار لديك، فماذا يعني لك؟

نعم. الصمت عندي في كتاباتي بمثابة خلفية، والكلمات كأنها سطور صغيرة على السجادة البيضاء للصمت. وبعد ذلك، كما قلت، لقد جئت من الموسيقى، حيث الاختلاف والتنوع والتكرار أمور حاسمة. هذا ما أحاول أن أجده في كتاباتي، وهو أمر رسمي للغاية. تماما مثل كل ملاحظة، يجب أن تجد كل كلمة مكانها الدقيق والمحدد لتكوين الكل. لكنها تحسب فقط كعناصر من الكل. فقط الكل لديه روح، إذا جاز التعبير. مسرح الصمت، الصمت أو التوقف المؤقت هي أهم الكلمات وأن أهم شيء في مسرحي هو ما يتم التعبير عنه من خلال الصمت. (هناك كلمة جميلة جدا غير موجودة في الفرنسية، وهي كلمة نرويجية جديدة، «توغن» التي تشير إلى الصمت النشيط، صمت يمتلئ بشيء ما). كل مسرحي يحدث في هذه الصمت، بين هذه الكلمات، بين هذه الكائنات. نحن في الوقت نفسه في مسرح القلق، الشك، الاستجواب، لا شيء مؤكدا على الإطلاق، ولكن بما أنه لا يوجد شيء مؤكد على الإطلاق في مسرحي، إذن كل شيء لا يزال ممكنا أيضا.

في منزلك، وفي مسرحياتك «أحلام الخريف» كيف تواجه تقلبات الطقس والزمن؟

فعلا نشأت على ضفاف مضيق هاردانجريف البحري، في مزرعة صغيرة نائية على الساحل الغربي للنرويج، وأثرت هذه المناظر الطبيعية على كتاباتي المسرحية. ومن ثم يختلف الأمر لكل مسرحية على حدة. في الأساس، يلتقط كل واحد اللحظة كلمحة بصر. هذه اللحظة التي يمكن أن يلتقي فيها الماضي والحاضر وإلى حد ما المستقبل: هذه واحدة من الاحتمالات العظيمة للمسرح. ولا يوجد شيء مجرد هنا، إنه حقيقي، إنه كذلك، وليس خلاف ذلك، هذا كل شيء.

تتقلب صيغ الزمان عندك في مسرحية «حلم الخريف».

يحدث ذلك على السطح فقط، لكنه مختلف في كلّ مسرحية. في الأساس، الجميع يلتقط اللحظة كما لو كان في لمحة. هذه اللحظة التي يمكن أن يلتقي فيها الماضي والحاضر، وإلى حد ما المستقبل، هذه واحدة من الإمكانيات الهائلة للمسرح. ولا يوجد شيء مجرد هناك، إنه حقيقي، إنه كذلك، وليس غير ذلك، هذا كل شيء.

لماذا تضع الشخصيات في ما يتعلق بالموت، بتعلقها بمكان آخر ما ورائي؟

لا أعتقد ذلك، أو بالأحرى، لكنها حقيقة: الجميع على وشك الموت طوال الوقت. لذلك في نوع من العلاقة مع الآخرة. إنه جزء من حالة الإنسان. بطبيعة الحال، تختلف طرق التعبير عنها، لكن جميعها يستند إلى هذه الحالة الإنسانية العالمية. إنها ليست مسألة قول كيف نوجه حياتنا، ولكن من خلال ماذا وكيف يتم توجيهها. من الصعب أن نفهم، وأن نشرح. يمكن أن يساعد علم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس في هذا التحليل، ولكن في المسرح، كفضاء للمحسوس والخيالي، تصبح الديناميكيات الأساسية أكثر قابلية للفهم.

عندما تتحدث عن الوحدة، الغياب، عدم اليقين، هل الأمر خاصية نرويجية؟

كل ما أكتبه يتأثر بشكل أساسي بتجاربي، حتى لو لم تكن أبدا بالضبط ما عشته، ومن الواضح أنها مرتبطة بالمناظر الطبيعية التي نشأت فيها. القرية الصغيرة بالقرب من المضيق البحري والساحل والمحيط ومنزل واحد هناك والآخر بعيد جدا. ألوان الخريف الجميلة. ظلمة السماء، المطر. ضوء في النوافذ! ثم، كتاباتي تحكمها لغتي (اللغة النرويجية الجديدة التي يتحدث بها فقط 10% أو 15% من النرويجيين الجدد).. أعتقد أن أي لغة تتفوق في التعبير عن مواضيع وطروحات تحمل روح جذور ثقافتها الخاصة. لي، خصوصيتي الأسلوبية ككاتب، تجبرني على الكتابة بالطريقة التي أكتب بها.

مترجمك في فرنسا تيري سيندينج، يتحدث عن الإيقاعات والموسيقى. هل تتعرف على النصوص الخاصة بك عندما تتم ترجمتها بلغات أخرى غير النرويجية؟

نعم، على الأقل في الفرنسية لأنني أفهمها قليلاً. ومع ذلك، فقد حضرت إخراج إحدى مسرحياتي باللغة التشيكية في براغ. لم أفهم كلمة واحدة، لكن بفضل الشكل الموسيقي والإيقاع، كدت أشعر بأنني أستطيع لمس فصول المسرحية! أن أشعر بها في يدي.

إذن، أنت لا تتدخل في الإخراج المسرحي؟

أبدا. أريد أن أكتب دون تدخل أحد بعملي المسرحي، وأعامل الآخرين كما أنوي أن أعامل نفسي، ولكن إذا سألت أسئلة، أحاول الإجابة عليها. لا توجد عندي أسرار… لحسن الحظ، تتم عملية إنتاج مسرحياتي كثيرا في كل مكان تقريبا، مع أشخاص مختلفين تماما. إذا اضطررت إلى المشاركة في هذا، فلن أعرف من أنا بعد الآن.. أترك كتاباتي للمخرجين حسب ثقافتهم المسرحية ورؤيتهم الإخراجية. هذه، في رأيي، هي الطريقة العقلانية الوحيدة للمضي قدما.

هل هي مسألة ثقة، أم لا مبالاة، أو طعم للمخاطرة؟

ربما مزيج من كل شيء، دون الثقة في شخص ما، على الأقل في شيء ما، لا شيء ممكن، لا مسرح، لا الأدب. ولا أي نوع من الفن. وبعد ذلك، بالطبع، لديّ رغبة للمخاطرة، مثل أولئك الذين عرضوا مسرحياتي ولعبوها. إنه المسرح الذي يتطلب ذلك. الشيء الوحيد الذي أنا مسؤول عنه تماما هو المسرحية المنشورة باللغة النرويجية. عندما نصل إلى مرحلة الإنتاج، هنا وهناك، يتم تقاسم المسؤولية بين العديد من الأشخاص. ومع ذلك، عندما تنجح، فأنا مؤلف جيد، وعندما تفشل، فأنت إذن مؤلف سيئ. باختصار: يجب أن يكون هناك توازن.

ترجمة بتصرف عن موقع المجلة الفرنسية المسرح المعاصر theatre-contemporain.net

كاتب ومترجم مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي