تأملات في قصيدة «تشابه» للشاعر كريم شغيدل

2024-02-29

ناظم ناصر القريشي

الصمت مايسترو الأفكار، والأفكار سمفونية الحضور، سمفونية الحياة، في زمن أنشطر إلى زمنين، كأنه فلسفة في حلم، يتشكل خلالها وجدان الشاعر في تيهه، فيستبطن حضوره في ظله، وعياً أو حدساً، ويستوطن النص في متوالية الحضور والغياب، والغياب والحضور، عبر هذه الموسيقى الشبحية، التي تغمر القصيدة وتتماثل مع الفكرة والكلمات، هذه الموسيقى الموجودة بقدر الضرورة في الريح مع الكلمات لفكرة الوجود في زمنين، زمن حاضر بملامحه الطيفية، وزمن حاضر بمضارع دهشته، هنري برغسون قال ذلك سابقاً، في ذكرى الحاضر، أو هو ما أراد أن يبوح به ويخبرنا بيتر ماكلير في كتابه «انشطار الذهن»، فسيناريو القصيدة يخبرنا عن الحضور ولا حضور، كالوجود في الوهم، ربما الوهم هو الحقيقة، أو أن ترى نفسك في الضفة المقابلة من الحلم، من الحياة وأنت ترى أن فكرة الوعي أتت قبل أوانها، رغم أن هذا لا يفسر ولكن يقبل على الفهم وفي قصيدة «التشابه» للشاعر كريم شغيدل الذي حاول في البدء تمثيل حركة الحضور والغياب للاستمرارية فى الفراغ ، في وجود مواز ينمو في القصيدة، والقصيدة هي نص مواز للحياة فيقول الشاعر:

الرَّجلُ البدينُ الذي يُلوُّحُ لي

من خلفِ زجاجِ الحافلة

الرَّجلُ الذي يرتدي بذلةً قديمة

ونظاراتٍ طبيةً سميكة

الرَّجلُ الذي ما يزالُ يدخنُ بشراهة

الرَّجلُ الذي لَسْتُ متأكداً من وجوده

الذي يضعُ حبةً تحتَ لسانه

ويسيرُ وحيداً

سيناريو القصيدة مبتكر من مرايا الوقت وما ينعكس فيها؛ وما الذي ينعكس في مرايا الوقت سوى الأشباح يخرجون من موسيقى شبحية، بدموع شبحية لوقت مرّ سريعا، ثم يعود في المرايا، وكذلك الريح التي أودعت جيناتها في نوتات الموسيقى، هذا ما تدعيه ويؤيده حضورها المحض في هذا النص المتماوج ويتعاكس كالضوء في المرايا، كانعكاس صورة الماء في الماء، ويؤكد دائما أن هناك زمنا آخر، زمنا خفيا، زمنا ضليلا لا يظهر إلا في أوانه:

يُلَوُّحُ لي دائماً ويختفي

أُوقفُ الحافلةَ التي كانتْ تَقِلَّهُ

الحافلةَ التي لَوَّحَ لي من خلفِ زجاجِها

أَهِمُّ بالصِّعودِ إلى جانبه

فَلَمْ أَجِدْهُ

الشاعر جعلنا ننظر بشغف في مرآة الحياة، حيث الروح الإنسانية بعمقها وتعقيدها هذا ما تحدثنا به بنية النص والمعاني، فهو وضعنا في وجود موازٍ، رغم أنه لم ينف، ولم يؤكد ذلك، لكن تيار الوعي لدى الشاعر في القصيدة يستدرجنا عبر لغة سينمائية فريدة تتشكل في القصيدة عبر مشاهدها المتعاقبه بدهشة، فيعهد إلى الشعر أن يتمثل حضورها في الكلمات، فاللقطة التي استدار الشاعر ليرى نفسه وهي تلوح له، لم تستغرق سوى لمح بالشعر، جمله شعرية تتحدث مجازيا وبشكل عرضي عن حضور طيفي، لكننا مستعدون للاعتقاد بأنها حقيقية:

أُلاحِقُ ببصري الحافلةَ التي نزلَ منها

قَبَلَ قليل

يُخْرِجُ يَدَهُ من نافذتِها

ويُلَوُّحُ لي

كانتْ يَدُهُ تُشْبِهُ يدي

لكنَّه لا يلبسُ ساعةً

أنظرُ إلى يدي

فَلَمْ أجدْ ساعتي

كانت فكرة الزمن أن تكون فكرة بيضاء على ورقة بيضاء، ثم اتسعت الأفكار، وأصبحت أفكاراً رمادية، هل هي تجريد السواد على البياض تحت ظل القصيدة التي تفاعل الشاعر فيها بين الإبداع والوعي الفلسفي/ الزمن؟ فهي فكرة مطلقة تمر ببعض المشاعر المشابهة في حياتنا، هل كان شوقاً يعانق في مطلق الزمان روحه في هيامه الأسمى؟ حيث يبعثره الحنين، كلون الماء على الورق، هذه الفكرة التي تتشكل عبر حضورنا السريع في الحياة الذي يتناوبه نثير الوقت الممزق المدجج بالنسيان الودود الذي يحوم حول ما تفيض به الذاكرة من توقعات في الحضور:

يا لها من مُزْحَةٍ ثقيلة

أنْ تكونَ بديناً متقاعداً

تقضي وقتَكَ على مِقْعَدٍ في حافلة

ذهاباً وإياباً

لا ترتدي ساعة

وتضعُ حبةً دائمةً تحتَ لسانِك

وتُلَوُّحُ لأشخاصٍ

تعتقدُ بأنَّهم يُشبهونك

الناظر الى تجربة الشاعر في قصيدة «تشابه» سيجد أن لديه القدرة الإبداعية على تشكيل المشهد عبر التحكم في مزج مجموعة من الصور مع السيناريو الافتراضي، الذي يعبر عن فكرة القصيدة، التي اتخذت الطابع السينمائي بكل عناصر اللغة السينمائية بالتوازي مع الشكل الشعري، فخلال تعاقب المشاهد وتتابع شريط الصورة والأداء التمثيلي والتكثيف التعبيري والتصويري للكلمات، المشحون بطاقة شعرية هائلة، وهي تتشكل بين المتخيل والواقع، ما يجعل منها المعادل البصري للغة السينمائية، في إحداثها التأثير الانفعالي المطلوب بالقصيدة لدى المتلقي، وسنجد أننا والشاعر الذي يرغب في العثور على نفسه في القصيدة متشابهان في الملامح بالقدر المتاح.

قصيد تشابه

الرَّجلُ البدينُ الذي يُلوُّحُ لي

من خلفِ زجاجِ الحافلة

الرَّجلُ الذي يرتدي بذلةً قديمة

ونظاراتٍ طبيةً سميكة

الرَّجلُ الذي ما يزالُ يدخنُ بشراهة

الرَّجلُ الذي لَسْتُ متأكداً من وجوده

الذي يضعُ حبةً تحتَ لسانه

ويسيرُ وحيداً

يُلَوُّحُ لي دائماً ويختفي

أُوقفُ الحافلةَ التي كانتْ تَقِلَّهُ

الحافلةَ التي لَوَّحَ لي من خلفِ زجاجِها

أَهِمُّ بالصِّعودِ إلى جانبه

فَلَمْ أَجِدْهُ

أَنْظِرُ للجهةِ الثَّانية

الجهةِ التي كنتُ واقفاً على ناصيتها

حينَ لَوَّحَ لي

فأجده يقفُ مكاني

ويُلّوُّحُ لي

أعبرُ الشارعَ ثانيةً

لِأَتَعَرَّفَ عليه

ذلك الرجل البدين

الذي يضعُ حبةً تحتَ لسانه

فَلَمْ أجدْهُ

أُلاحِقُ ببصري الحافلةَ التي نزلَ منها

قَبَلَ قليل

يُخْرِجُ يَدَهُ من نافذتِها

ويُلَوُّحُ لي

كانتْ يَدُهُ تُشْبِهُ يدي

لكنَّه لا يلبسُ ساعةً

أنظرُ إلى يدي

فَلَمْ أجدْ ساعتي

يا لها من مُزْحَةٍ ثقيلة

أنْ تكونَ بديناً متقاعداً

تُقضي وقتَكَ على مِقْعَدٍ في حافلة

ذهاباً وإياباً

لا ترتدي ساعة

وتضعُ حبةً دائمةً تحتَ لسانِك

وتُلَوُّحُ لأشخاصٍ

تعتقدُ بأنَّهم يُشبهونك

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي