غزة… أفق الأسئلة القاسية

2024-02-29

طائرات ورقية فوق رفح وتصاعد الدخان إثر قصف اسرائيلي على خان يونس بجنوب قطاع غزة، في 20 شباط/فبراير 2024. (ا ف ب)

واسيني الأعرج

الآن اتضح المشهد العربي المؤلم بشكل واضح، على الرغم من كثافة أدخنة الحرب. ولمن كان يشك ويربط كل التحاليل والتصورات بنظرية المؤامرة التي خربت الفكر العربي من داخله لأنه ضخم أشياء يصنعها ذهنياً ويؤمن بها بقوة، ها هو الدليل القاطع بأن ما تم تحليله لم يكن نتيجة حالة فكرية مرضية، ولكن حقيقة موضوعية. أمريكا ليست اليوم شيئاً آخر إلا إسرائيل الكبرى، ووجودها هناك ليس فقط حاجة استراتيجية ولكن حيوية أيضاً. ترابط اللوبيهات وتوغلها في النسيج المؤسساتي الأمريكي جعلها مقرراً للسياسات الأمريكية الشرق أوسطية. خطاب إسرائيل بوصفها نموذجاً «للديمقراطية» في شرق يجيش بالتخلف والإرهاب والتقتيل المجاني، يجعل من إسرائيل سوراً حامياً للمصالح الأمريكية الضخمة. ننسى فجأة أن ما يحدث للعالم العربي من تكسرات، لليد الغربية الاستعمارية دور فيها. إذا كان غالبية الحكام العرب تحت جاذبيات غربية مصلحية وجودية، فطبيعي ألا يتحركوا إلا بالرضى المؤسساتي الأمريكي. لن يتخلفوا عن الاشتراطات الأمريكية مهما كانت الجهود المبذولة للخروج من ضيق الدائرة. والمفجع في هذا كله أن ذلك انعكس على حالة غزة التي تقاوم وحدها ميدانياً، وبينت الضعف العربي ليس في تحرير الأراضي المحتلة، فهذا لم يعد من مهامها، لكن على الأقل الاجتماع والصراخ ومساندة إفريقيا الجنوبية وجر إسرائيل إلى مجلس الأمن، التي كانت فوق أي عقاب، وكأن إفريقيا الجنوبية التي قامت بما كان يجب أن يقوم به العرب مجتمعين، في مواجهة وضع هو حالة إنسانية تعاطف معها الجميع عبر العالم، قبل أن تكون عربية قومية.

وكان يمكن مثلاً حفظاً لماء الوجه، أن يجتمع رؤساء وملوك جامعة الدول العربية كما فعل الأفارقة في إثيوبيا، ويصدرون بياناً صغيراً يشجبون فيه ما تقوم به إسرائيل؛ رفع عتب، أو على الأقل أن يردوا على شتيمة ووقاحة وخسة نتنياهو الذي لم يتوان عن شتم الحكام العرب، وينصحهم بلزوم أمكنتهم إن أرادوا أن يحافظوا على مصالحهم. هل وصل العرب إلى هذه الدرجة من الإذلال؟ مع أنه يمكننا أن نفكر خارج المعطيات القومية ونعوضها بالمعطيات الإنسانية الأكثر اتساعاً، والنضال المصلحي والتفكير في كيفية حماية النفس من الاستراتيجيات التوسعية لإسرائيل في منطق الشرق الجديد الذي يمزق الدول العربية بما فيها السعودية ومصر والعراق ولبنان وسوريا. هذه المخاطر حقيقية، تحتم على الدول العربية إعادة النظر في الاستراتيجيات الممكنة لحماية النفس من تمدد سرطاني ممكن، والتفكير على الأقل في حماية النفس حماية حقيقية.

ما يحدث اليوم لا يمكن قبوله بأي شكل من الأشكال. دون ذلك، فنحن نسير حثيثاً نحو الموت والانقراض. في المائة سنة الأخيرة، تغير المجتمع العربي كلياً بدءاً من خرائطه التي لم تعد كما كانت، بعد اتفاقية سايكس بيكو التي محت مساحات كبيرة وحولتها إلى بلدان وعروش متقاتلة. وكأن هذا لم يكن كافياً للهيمنة والسيطرة، فبدأت التمزيقات الثانية في الخرائط العربية؛ فالسودان تشظّى إلى شمال وجنوب قبل أن تدمره حرب أهلية بين الإخوة الأعداء، مع العلم أن العداوات تستمر زمناً طويلاً حتى عندما تتوقف الحروب، واستحالة قيام دولة السودان الجديد والتفرغ للتنمية، وصراع المواقع والمصالح بين مجموعات الظل. أما العراق فيحاول أن يرمم نفسه بعد انتزاع جزئه النفطي الحيوي، وجهود إعادة المقاطعة الكردية إلى الحاضنة الوطنية مستمرة بجهود كبيرة للمحافظة على وحدة هشة تخترقها المصالح الخاصة. لم يعد العراق كما كان؛ عراق الحياة والاستمرار في النضال والحفاظ على التوازنات عسكرياً واجتماعياً. وسوريا مزقت وتتمزق يومياً بين المجموعات الدينية والكردية والنظام، وهو وضع مربك لا يزعج لا إسرائيل ولا أمريكا، حتى التحالف الاستراتيجي مع روسيا ليس حامياً لوحدة البلاد؛ الإسرائيلي يقصف سوريا وقت يشاء، والصواريخ تنزل على مواقع حيوية سورية دون أن يعترضها صاروخ روسي.

لا يمكن لذلك أن يحدث إلا باتفاق مسبق مع إسرائيل.

غزة كشفت الغطاء أمام آلة مرعبة، ولكنها ليست بكل تلك القوة التي حولت إسرائيل إلى بعبع أسطوري تصعب هزيمته. لقد قاوم الشعب الفلسطيني بلحمه وجسده، والأرقام المرعبة تتسع كل يوم أكثر (قرابة 30 ألف ضحية) بشكل أثار العالم، وبيّن إلى أي حد يمكن أن تصل إليه الجريمة الإسرائيلية. إسرائيل خسرت الحرب بالمعنى العميق للحرب. ليست الآلة الجهنمية هي المحدد في النهاية على الرغم من قسوتها، فهي تهدم وتدمر وتقتل ولكنها عاجزة أن تصنع انتصاراً في المواجهة بين الفلسطيني والإسرائيلي، فهي على قدر كبير من الذكاء في المقاومة بالعمل العسكري والصبر. مجموعة بشرية لا يضاهي سلاحها في شيء السلاح الإسرائيلي، لكن الخطط الحربية الجديدة وجهت ضربات موجعة للجيش الإسرائيلي «الذي لا يقهر». أربعة أشهر من المقاومة أمام آلة ثقيلة. كيفما كانت معطيات الحرب التي قد تكون قاسية، لكن المحصلة أنها فتحت القضية على مصراعيها دولياً وهذا مهم جداً، في الجامعات وشوارع العالم والبلدان والمحافل الدولية، وهذا وحده يشكل انتصاراً كبيراً شرط أن يستمر بتطوير أساليب الحرب. كل الكذب الإسرائيلي أصبح مكشوفاً، لا وجود لدولة فلسطين في أجندات عسكرييها ومتطرفيها. شيء واحد أصبح اليوم يقيناً: أن إسرائيل لن تنعم بالراحة أبداً، وستدفع الثمن غالياً في الخمسين سنة المقبلة، فالذي فقد أهله تحت ردم البنايات، أو الصغيرة التي رأت أمها تموت في مستشفى مهدم بمرض تافه بسبب قلة الخدمات في المستشفيات التي استولت عليها إسرائيل، وأخذت طواقمها واغتالت جزءاً كبيراً منهم، الصبي الذي رأى جثة أمة تخرجها الجرافة من المقبرة وتعريها من التراب لتصبح طعماً للكلاب الضالة… لا يمكنه أن يظل صامتاً.

ثم ماذا بعد، على إسرائيل أن تتحمل نعوتها الجديدة كفاشية جديدة، فقد سحب منها الخطاب الذي حول الهولوكوست إلى أيديولوجية لإخفاء الجرائم. كلمة لولا، رئيس البرازيل، أمام الصحافيين خلال القمة السابعة والثلاثين للاتحاد الإفريقي في أديس أبابا: «ما يحدث في قطاع غزة للشعب الفلسطيني لا مثيل له في لحظات تاريخية أخرى. في الواقع، حدث ذلك حينما قرر هتلر قتل اليهود».








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي