«عزيزي المستبد» حين نمارس حياتنا بالكتابة لنغالب الأوجاع

2024-03-02

عاطف محمد عبد المجيد

يا ليتك تخبرني عن حالي الذي أصابه اليُتم، بعدما عرفتُ أن في حياتك صديقة غيري مقربة إليك، يا ليتك تعلم أنني ليس لديّ أحد أكلمه بقلب مفتوح، ولا أسأله نُصحًا غيرك، فأنت استثناء.

هل يمكنك أن تخبرني كيف أتوب عن الكتابة إليك؟ وأن أتقبّل صديقة أخرى في حياتك؟

يأتي هذان السؤالان على لسان ضحى بطلة رواية «عزيزي المستبد» للروائية زينب عفيفي، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية وتقع في 222 صفحة، وفيها تجمع الكاتبة ثلاثة فنون إبداعية معًا في خيط واحد جاعلة منهم أبطالًا لروايتها: البطلان المحوريان وهما الراوية الفنانة التشكيلية، الصديق الروائي، والجار الموسيقي، ولكل منهم مأساته الخاصة.

الرواية التي جعلتها الكاتبة في ست وأربعين رسالة، متخذة منها وسيلة للبوح والفضفضة كتبتها ضحى الراوية لصديقها الروائي، وهي في عزلتها التي سبّبها اجتياح فيرس كورونا للعالم، ورغم أنها تعرف أن هذه الرسائل لن تصل إلى صديقها إلا أنها بثت فيها كل ما في داخلها من هموم وأوجاع وآلام مكبوتة، وأمنيات وأحلام.

عفيفي التي تؤمن أن المبدع يولد بلغته، فهي جزء من تكوينه الذاتي والفكري وميوله لنوعية اللغة التي تتناسب مع روحه وفكره، وهو الوحيد الذي يري اللغة الأقرب لشخصيته افتتحت روايتها قائلة: لا توجد سعادة تضاهي وجود شخص ما في حياتك، تكشف له عن مكنون نفسك، ينصت إليك، يحتويك، في لحظات حزنك وفرحك، يستمع إليك، دون أن يخذلك أو يتهمك بالجنون.. مرة تبدأ رسائلها إلى صديقها بعزيزي الغالي، مرة بصديقي الغالي، مرة بصديقي العزيز، مرة بعزيزي المستبد، وأخرى بصديقي المختلف، ومرة بصديقي البعيد، ومرة تبدأ رسالتها بعدة نقط هكذا…

معاناة أنثى

الرواية تكشف لنا معاناة أنثى خانها زوجها الذي أحبته بصدق، وخانها صديقها الذي ظنت أنه صديق مقرب ومختلف، لكنها تكتشف بعد ذلك أن لديه علاقات نسائية متعددة، وصديقات مقربات كثيرات.

هذه رواية يمكن، ببساطة شديدة، أن نسميها أوجاع أنثى ومآسيها، هذه الأوجاع نتجت عن الخيانة: الخيانة دومًا مؤلمة، خاصة لو جاءت من المقربين تكون إصابتها نافذة. والأنثى هنا ليست أنثى عادية، بل إننا أمام أنثى مبدعة تحب الفن وترسم لوحات تشكيلية تحاول أن تضع فيها ما يعتمل بداخلها، راسمة العالم كما تتخيله.

سمما يسبب أوجاع الأنثى هنا هو احتياجها للحب الذي يقوم بضبط مؤشر حياتها على اتجاه السعادة والاتزان النفسي، وغيابه، أو فقدانه تمامًا، ربما يصيبها بفقدان كامل لمذاق الحياة بكل تفاصيلها: إن أكثر ما يؤلم أي امرأة يا صديقي أن تفتقد الحب في علاقة حميمية.

الرواية تريد أن تقول هنا إننا رغم احتياجنا، أحيانًا، للوحدة وللخلوة بأنفسنا بعيدًا عن الجميع، لكننا دائمًا ما نحتاج إلى وجود آخرين معنا: رغم احتياجنا من وقت لآخر إلى الاختلاء بأنفسنا، إلا أنه يأتي وقت نشتاق فيه للحديث مع أحد مهما أراحتنا الوحدة، فعندما تكون ظمآنًا حتمًا ستبحث عن الماء، وعندما تشعر بالخواء سوف تبحث عن الآخرين.

زينب عفيفي التي تبدأ كل كتاباتها بفكرة مُلحة ثم تتشكل علي هوى الأحداث والشخصيات، وتصنع مصائرها علي الورق تنتقد في روايتها هنا وجود الرقباء الذين يلاحقوننا بنظراتهم ويتسببون في عذابنا النفسي: يتحتم عليّ أن أقتل كل الرقباء بداخلي، وتستنكر نظرة المجتمع السيئة لعلاقة الصداقة بين الرجل والمرأة خاصة حال براءتها، وتؤمن بحرية الجميع، إلا أنها تبرز الصراع الدائر دائمًا ما بين العقل والقلب، طارحة تساؤلات منها ما الذي يفعله الاعتياد والحنين؟ وهل نحن سعداء بالفعل؟ وما هي الأسباب التي تجعلنا نقرأ الروايات؟ ومن هو القارئ الساذج؟ ومن هو القاريء الحساس؟

الرسم والموسيقى

هنا أيضًا تريد الرواية أن تقول لنا إن إحساسنا المفاجئ بالتعلق بالحياة، حين نستشعر أن الموت وشيك، يجعلنا ندرك قيمتها، وأن الغيرة يمكن أن تولد من أشياء أو من أماكن، وأنها ليست دائمًا من امرأة أخرى، وأننا نعيش لنمارس حياتنا بالكتابة والرسم والموسيقى، هذه الفنون التي نلجأ إليها لنداوي جراحنا التي يصعب علينا أن نداويها بالعقاقير مهما مر الزمن، وأن الهروب من الذكريات ليس حلًّا في حالات كثيرة، بل مواجهتها أفضل، وإن كانت أكثر إيلامًا وشفاءً في الوقت نفسه، وأن الحياة على قدر بساطتها إلا أنها تثير بداخلنا مشاعر معقدة يصعب تفسيرها، وأن الصدمات ليست كلها قاتلة، بل منها ما يُعيد إلينا الحياة، وأن السعادة ليست في الحب، إنما في الأُلفة التي نسعى إليها في التعبير عن مشاعرنا، وأن مقولة المرأة هي السبب في خيانة زوجها لها ليست دائمًا صحيحة.

مستعينة برؤيتها للحياة، صورت زينب عفيفي هنا، في سرد روائي سلس مستخدمة لغة تحاول، أحيانًا، الاقتراب من لغة الشعر، أوجاع امرأة تحالفت عليها كل الظروف لتجعلها تعيش مأساتها وحيدةً، دون أن تجد يدًا تربت عليها وقت حاجتها.

نهاية أختم مقالي هذا بما قالته لي ذات حوار بيننا: الواقع دومًا يحمل الخيال بداخله، وما علي المبدع إلا اكتشافه، الخيال من صنع البشر، أما الواقع فمن صنع القدر، وعلينا أن نقرأ ونتفاعل مع الحياة، لنكتشف أنفسنا من خلال الواقع والحقيقة التي لا نعرفها، وحينما نكتشف بعض الحقائق يثار بداخلنا سؤال يدهشنا: هل هذا معقول؟! وإذا لم يحمل الواقع أحداثًا أقوي من الخيال تموت الدهشة، وإذا فقدنا الدهشة مات كل شيء حولنا، لأن الدهشة إعلان صريح للحياة.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي