كرةٌ في القلب

2024-03-02

هارون الصبيحي

اسمي عاطف.. أنا مجنون كرة قدم.. أتابع الدوري المحلي والإسباني والإنكليزي والفرنسي والألماني، ودوري أبطال أوروبا، وكذلك كأس آسيا وأفريقيا وكأس الأمم الأوروبية وكأس العالم.. ليس ذلك فحسب، بل أجلس لساعات متابعاً التحليلات واللقاءات والبرامج الرياضية، وأكتب عنها في مواقع التواصل. بالمختصر المفيد حياتي كرة قدم، عشقي لكرة القدم قديم.. في صغري لعبتها في الحارة والمدرسة، لكنّي لم أملك الموهبة، التي تؤهلني لأصبح لاعباً جيداً، رغم ذلك عشقتها. ومنذ ذلك الوقت وشغفي بمتابعتها يزداد عاماً بعد عام.. هي تطورت عن أيام زمان وأصبحت أجمل وأكثر إثارة ومتعة.. تسألني زوجتي أحياناً: ماذا لو لم تكن عاشقاً لكرة القدم؟. ماذا كنت ستفعل؟ أو كيف كنت ستعيش حياتك وتقضي وقتك؟

في الحقيقة لا أعرف، ربما كنت سأعشق شيئاً آخر، أو ربما كنت سأشعر بالكسل والملل والكآبة من الحياة. زوجتي لا تحب مشاهدة المباريات.. وسأهمس لكم بسرّ: كنت أرغب في زوجة تحب كرة القدم، وبحثت عنها لكن دون جدوى، أو كما يقولون: «الزواج قسمة ونصيب». كنا كثيراً ما نتشاجر بسبب كرة القدم. فأثناء متابعتي مباراة على شاشة التلفاز أشعر بالتوتر وأنفعل، وأحيانا أصرخ وأشتم الحكم أو اللاعبين والمدرب.. وعندما تخسر الفرق، التي أشجعها، أشعر بالغضب، وهي لا تتحمل ذلك، ويحدث بيننا خصام وشجار.. هل تعلمون أننا كنا سننفصل أكثر من مرة بسبب شغفي بكرة القدم!، لكن وجود الابن البكر وتدخل العقلاء من العائلة منعنا.. بعد أعوام تراجعت شجاراتنا حتى صارت قليلة، وبحدة أقل بكثير، وربما لأنها شعرت باليأس تأقلمت مع وضعي، لكن أنا أحب قبل المباريات المهمة وبعدها أن أناقش وأتحاور مع أحد عن المباراة، لذلك أذهب أحياناً مع أصدقائي لمتابعة المباراة في المقهى، أو ألجأ إلى الكتابة والتعليق على مواقع التواصل.. سأحدثكم الآن عن النادي العالمي الذي أشجعه، لا أشجعه فقط بل وأتعصب له، هو ريال مدريد.. نعم أنا «مدريدي» متعصب للفريق الملكي، ربما أنتم لا تعلمون لماذا لقّب ريال مدريد بالملكي، رغم أن هذه معلومة مهمة جداً ومن المعيب أن لا تعرفوها.. لقب الملكي جاء بسبب فوز الريال بالعديد من البطولات الكبرى. لذلك أطلق عليه ملك إسبانيا ألفونسو عام 1920 لقب «الملكي».. نادي ريال مدريد تأسس عام 1902، وميزانية الريال اليوم تتجاوز 843 مليون يورو، أما بالنسبة للمنتخبات فأنا مجنون بالبرازيل.. منتخب البرازيل لا يلعب كرة قدم في الملعب، هو يعزف مقطوعات موسيقية رائعة ويرقص السامبا و.. انتهى.

هيّا أخرج من هنا. أنا الساردة الآن، أنا سميرة زوجة عاطف، مأساتي في حياتي الزوجية هي كرة القدم.. الكرة التي دخلت قلب زوجي ولم تخرج منه أبداً.. أريد لاعباً مبدعاً يركلها من قلبه.. أنا فشلت في ذلك، رغم محاولاتي المستمرة بعد زواجنا. نعم هي دخلت قلبه وسيطرت على تفكيره.. لم أكن أعلم أنه مدمن على مشاهدة المباريات لهذه الدرجة.. كنت أعتقد أنها نوع من الترفيه في أوقات الفراغ. وفي الحقيقة ولعه بها لا يتراجع أبداً مع مرور الأعوام، وربما يزداد، هل تعلمون أنه يهمل العائلة والعمل من أجل كرة القدم! حياتنا صعبة رغم أن كلينا موظف، لكننا نستدين لندفع أقساط الجامعة لمحمود ابننا، منذ زمن وأنا أقول له: فكّر في مستقبل العائلة، بما أن عملك الوظيفي بسيط، ولا يأخذ وقتاً طويلاً. لماذا لا تبحث عن عمل آخر تجني منه بعض المال، ليساعدنا في المستقبل؟ لا فائدة من الكلام معه.. ما يستفزني ويخرجني عن طوري هو فرحه الجنوني عندما يفوز المنتخب أو الفريق الذي يشجعه!، يفرح وكأنه ربح الجائزة الأولى في اليانصيب!، ليس ذلك فحسب. بل هو ينفق المال من أجل الكرة.. أحياناً يشتري التذاكر لحضور المباريات، ويجلس في المقاهي ليتابع المباريات، ويدفع عن أصدقائه ثمن المشروبات.. كرة القدم تأخذ وقته وتفكيره. بحثت وقرأت عن هذا الموضوع فوجدت أنه ليس الوحيد.. حالته هذه يعيشها ملايين الناس في العالم، بعضهم فقراء وجياع لا يملكون شيئاً، لكنهم ينسون أو يتناسون كل شيء من أجل كرة القدم.. بعض الشعوب تتناسى مشاكلها والفساد، الذي ينخر في جسد الدولة، ولا حديث لهم إلا عن المنتخب الوطني والمباريات!، لا شك أن كرة القدم ساحرة شريرة سحرتهم وسيطرت على عقولهم.. عيونهم مسلطة على أقدام تتصارع على جلدة منفوخة وتركلها في الملعب، لا.. لا.. الكرة ليست في الملعب، بل هي داخل رؤوسهم، وربما رؤوسهم هي الكرة، التي تركلها الأقدام لتأخذها بعيداً عن.. انتهى.

هيّا يا أمي لو سمحت، أنا السارد الآن، أنا محمود الابن البكر لعاطف وسميرة، طالب جامعي في السنة الرابعة تخصص (علم النفس) المهاجم في كرة القدم يضرب الكرة برأسه نحو المرمى ليسجل الهدف، هذا ما يحدث في الملاعب، لكن هناك لاعبين من نوع خاص يضربون الكرة برؤوسهم أو يركلونها بأقدامهم لتدخل إلى رؤوس الناس وقلوبهم.. هي وسائل إعلام بعض الأنظمة وشركات التسويق والمستفيدين مادياً منها.

بكل تأكيد كرة القدم لعبة جميلة، وفيها التشويق والإثارة، أنا أتابعها أحياناً في أوقات الفراغ، هي كانت لعبة رياضية، والرياضة صحة ونشاط وحيوية، لكن كرة القدم اليوم تغيرت عن بدايتها الأولى، ودخلت إلى معظم دول العالم باعتبارها مهنة، تحت مسمى الاحتراف، وأصبحت تجارة واستثمارا وغير ذلك.. لكن الكثير من الحكومات والأنظمة تستغل كرة القدم وتوظفها لأهداف معينة.. بعض هذه الأهداف جيدة للدول مثل بث الروح الوطنية، وجمع الناس على رأي واحد، من خلال تشجيع المنتخب الوطني، وكذلك تسويق السياحة في الأوطان، وأحياناً استثمار اقتصادي ووظائف تحد من البطالة، لكن الكثير من هذه الأهداف، التي تسجل خارج الملاعب خبيثة جداً. وفي مقدمتها تقسيم الشعب داخل الوطن إلى فئات تشجع الأندية، وإشغال الناس، وصرف تفكيرهم عما يحدث حولهم في الوطن من فساد وخراب..

ملاعب كرة القدم هي المكان المناسب للتفريغ والتنفيس، تفريغ شحنات الغضب والقهر، التي في داخل البشر، وتنفيس البالون قبل أن ينفجر.. أحياناً تشتم الجماهير حكام كرة القدم.. هذا رائع بالنسبة للأنظمة والحكام، ليشتموا حكام الكرة ويرتاحوا ويصفقوا لحكام الدول، التي تدعم كرة القدم وترعاها.. مشاهدة اللاعب وهو يركل الكرة بقدمه بكل قوة، هو تفريغ للغضب والاحتقان الداخلي للناس. عندما كنت طفلاً حين كنت أغضب، كنت أخرج من البيت إلى الرصيف، وأركل كل ما هو في طريقي من علب فارغة.. كرة القدم تنشر أحياناً الكراهية والأحقاد من خلال التعصب للفريق، وأحياناً تتسبب في الشغب.. وفي كل الأحوال معظم المباريات لا تخلو من الشتائم البذيئة وغير ذلك…

من مفارقات كرة القدم المؤلمة أن بعض الدول الفقيرة تصرف عليها الملايين دون أن تحقق نتائج أو تنافس على الفوز بكأس العالم، في حين لا تمنح فقراء الوطن وجياعه إلا الفتات.. العالم كله يصرف مئات المليارات على كرة القدم، وعلى هذا الكوكب مئات الملايين من الجياع.. ربما أكثر من يعشقون كرة القدم ويتابعونها بتعصب هم من الفقراء، كما هو حال أبي، هي فيها مفارقات مذهلة، كما سبق وذكرت. كرة القدم لعبة جميلة وممتعة ومشوّقة للاعب والمتفرج، لكنها توظف لأهداف متعددة.. كرة القدم خرجت عن مسارها باعتبارها رياضة وصارت شيئاً آخر.. أبي حياته كرة قدم، وأمي تكرهها.. أعتقد أن كليهما على خطأ.

كاتب أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي