رواية «الأرملة السوداء»: حوارية الأجناس ولعبة الناقد الداخلي

2024-03-04

رياض خليف

مازال الروائي محسن بن هنية مصرا على المغامرة ومتحمسا لها. فهذا الكاتب العصامي الذي حافظ على وجوده واستمر في تجربته طوال هذه السنوات مازال ينطق بنبرة متمردة، تحاول خلخلة الخطاب السردي المألوف والكتابة خارج الدروب التقليدية، متبنيا خطاب التجديد وهدم الماضي.

هذه الإرادة يجدد ابن هنية التعبير عنها في روايته الصادرة مؤخرا بعنوان «الأرملة السوداء» فهذا النص الروائي يأتي مصرا على التجاوز والارتماء في عوالم التجريب الروائي، منوعا الخطاب وأشكاله، مباعدا المسافة مع النموذج التقليدي للرواية.

السرد بتقنيات الخطابات المرجعية

لا يكتفي الكاتب بممارسة السرد التخييلي لتشكيل روايته لكنه يعمد إلى سرد يستدعي فيه تقنيات وأساليب الخطابات المرجعية (عام/ دين/ نقد/ فلسفة…ألح ). فنحن أمام رواية يلتقط كاتبها الكثير من الأجناس أثناء تشكيلها. فهي قائمة على تعدد الأجناس.. نقرأ بين طياتها البلاغات الأمنية والقضائية والمحاضرات العلمية. فمن البلاغات الأمنية ذلك الذي أعلن فيه الأمن على العثور على سيارة الأستاذ الجامعي:

« بلاغ »1: عثر على سيارة يملكها أستاذ جامعي وهو ليس بها وذلك على أطراف طريق غير ممهدة شمال البلاد».. هذا البلاغ تتلوه بلاغات أخرى مثل تقرير وكيل الجمهورية وما فيه من تقنيات الخطاب القضائي: «نحن وكيل الجمهوريه بـ… بعد أن بلغنا باختفاء الدكتور يوسف في ظروف غامضة نصدر تعليماتنا للفرقة الأمنية ذات الاختصاص بإجراء بحث معمق لكشف ملابسات العملية في أسرع وقت لبحث ما حدث وإزالة ما غمض.. أمر ينفذ حالا…»

ونجد كذلك تقنيات الخطاب الأمني في أحد التقارير: «عملا بأمر النيابة العمومية تحولت فرقتنا المختصة على عين المكان قرب قمة جبل وعبر المسالك الوعرة عثرنا على سيارة المبحوث عنه…

وفي الرواية نماذج من الخطاب الفلسفي على نحو قوله: «إن النظر في كيفية الخلق سابق للدارونية بمئات السين قال بها قدماء بابل ثم الاستوريون وكذلك المصريون… «. ونسجل أيضا الخطاب القرآني من خلال بعض الآيات: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ. إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

وتعج الرواية بالنصوص العلمية التي نلتقي فيها بأساليب الخطاب العلمي واهتماماته مثل تعريف الميكروب: «الميكروب هذا الاسم مركب أطلقه جراح فرنسي يدعى تشارلز..».

ولا يخفى الخطاب الجمالي الفني من خلال استدعاء أشعار ومقاطع غنائية معروفة. وهو ما يجعل الخطاب السردي في هذه الرواية خطابا يلتهم خطابات أخرى ولعلها هي بدورها تقتحم عوالمه وتقتص نصيبا وافرا منها. فالخطاب الروائي بات مفتوحا لمختلف الخطابات والمعارف والوجهات وهو ما يستجيب للطرح الباختيني ولنظرية حوارية خطاب الرواية.

هذا التنوع سير نحو التجريب والكتابة الروائية بشكل جديد يتضاءل فيه الخطاب السردي الجمالي وهو ما ذكره محمد القاضي في تقديم هذه الرواية. فنحن «كأننا إزاء بحث علمي لا إزاء نص سردي». ويسير هذا النص «على حبل رهيف بين منطقتين: منطقة الرواية ومنطقة الابتكارات والمخترعات العلمية». لكن التجريب يتجاوز في هذه الرواية تعدد الخطابات نحو استدعاء خطاب المؤلف منزوع الأقنعة. فليس ساردا أو شخصية بل هو مؤلف النص يتكلم ملتفتا إلى الكتابة وممارسا الخطاب «الميتاسردي».

المؤلف بلا أقنعة أو صوت الناقد الداخلي

يلفت انتباه القارئ في هذا النص الباحث عن أوجه مختلفة للتجريب والتجديد، حضور نوع من الخطاب الواصف المرافق، خطاب التعليق على العمل السردي. وقد ورد تحت عنوان تدخل وجاء في وقفات مختلفة.

إن الكاتب يتنصل من وظيفته الأساسية وهي السرد والتخييل وترتيب الأحداث فيبدو في أحد هذه التدخلات مجرد ناسخ لما يرد في الرواية بعد نسخ ورقن صفحات فيها من التذكير المعرفي ما راق لي من استحضار حالات ومكتشفات أكثرها معلومة لأتابعها مع شخصيات النص باعتبارها استرجاعا لماض من الظواهر التي طغت فوق المعتاد…»

لكنه يستغل هذه الورقة ليخاطب القارئ والناقد معا: مدافعا عن توجهه في الكتابة ومعبرا عن وعيه الكتابي.»لا أشبه جدتي ولا شهرزاد ألف ليلة وليلة ومغامرات السندباد ولا المعذبون عند طه حسين ولا أنا مؤرخ لأحداث مثل جورجي زيدان ولا مغازل للعواطف برومانسية كجبران.. قد تعترض على مذهبي. كل ما في الأمر طبيعتي مبدعا يكره السير في ظل غيره، أنحاز لظلي…»

ثم يقدم الكاتب ذاته أو خطابه في تدخل آخر باعتباره منسقا ومحررا لهذا النص. «أندفع لأتدخل متى حق ذلك. فالشخصيات تملك من الحرية هامشا فتتصرف خارج إرادتي».

فهو «متابع لأدوارهم ومنضد، قد أنتبه لغياب أحدهم فاتصل وأسأل عنهم كأنهم أفراد أسرة أو شركاء في رسم حياة تخيلية إلى جانب حياتهم على الركح… «

بهذه التدخلات النقدية يدافع الكاتب عن تجربته ويفصح عن ملامح مغامرته. فهو على حد قول محمد القاضي «يؤكد هوية النص السردية رغم حضور الخطاب العلمي بكثافة، ويؤكد أن السرد هو مجاله الإبداعي. لكنه يزحزح السرد أو قل إنه بوسعه حتى يصبح قادرا على احتواء لغة العلم، وفي ذلك سعي مبتدع يقود في رأيه إلى فتح جديد للرواية العربية، وليس ذلك من باب التجريب أو المغامرة المرتجلة وإنما هو وليد إيمان راسخ بأن الأدب الحق ابتداع وتمرد وخروج عن المألوف».

وصفوة القول إن هذه الرواية مغامرة من مغامرات الكتابة الروائية عند ابن هنية يجعلها ملتقى الخطابات التخييلية والمرجعية. فالتخييلي يجاور المرجعي والعلمي والنقدي والفني والديني. أي إن الروائي يكتب باستعمال تقنيات ولغات مختلف الخطابات.

كاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي