تجليات الأنماط… رؤى وتداعيات في اللوحة التشكيلية

القدس العربي - الأمة برس
2024-03-04

تعبيرية (بيكسلز)

جاسم عاصي (كاتب عراقي) - إن توصيف دافنشي لوظيفة الصورة الفوتوغرافية وخاصيتها ينطبق على فن اللوحة التشكيلية في كونها تقدم مفردات الواقع للحس الإنساني، بمقدار من الحقيقة واليقين، يفوق ما تقدمه الكلمات والحروف. هنا تأكيد على حقيقة ما تقدمه اللوحة، عبر مفردات بصرية، تحتمل انبعاث الحياة والحركة، في استقراء المشهد اليومي، لتكون ضمن المقروء، الذي يُشير ويؤكد حقيقة ما يُدرك ويُرى بصرياً.

فاللوحة بهذا القدر من التأكيد إنما تضعنا على مشارف عمق الواقع المنسي، عبر إضاءة جوانبه المسكوت عنها، ضمن مجريات الأزمنة وتسارعها وثقلها. وذلك من خلال التشبث بصورة المهمل من الحياة الجارية، وهي متن للذاكرة، التي تتجلى خلالها كل الحياة المؤجلة. وبهذا تكتسب فعلاً مرئياً، فيه مجموعة إشارات وعلامات قارّة تقود إلى كشف متن التاريخ وتجليه. فهي أحد أوجه التاريخ ومتنه المرئي.

إذن هي الجسد الذي نصادفه في الشارع والزقاق والمطبخ والمعمل والحقل، حتى الذي نداعبه بلذة وشوّق في السرير. إنه جسد لصفة نُزعت عنها كل المناطق النفعية، لتصبح دالة على وظيفة واحدة هي الوظيفة الايروسية. فهي خلاف النص، الذي يتوسل باللغة في إنتاج مضامينه. فاللوحة تستدعي إنتاج دلالاتها، وفق عناصر أولية خالقة لمعاني ساحقة، إنما لها تنظيم يستحضر الأسس، التي تحكم هذه الأشياء في بنيتها الأصلية.

من هنا نجد أن اللوحة تضعنا وفق عفويتها المدروسة، ضمن حقل معرفة النموذج، وهو جزء من كادرها الذاتي والموضوعي. فالعفوية والقصد في إنتاج الصورة يخضع إلى الأبنية الفنية المشكّلة لذهن الفنان، كما تخضع لحيوية العقل التشكيلي، وهو يراقب اليومي الشفاهي المرئي، مراعياً بذلك ذائقته وحسن اختياره. فهو يعمل بهذا على إخضاع العفوية، التي تخاطر الذهن البشري، في اتجاه الحراك الفني المبني على الاختيار الحر والمشرق. فالذي يقوم به الفنان هو فعل إنتاج إبداعي، القصد منه يندرج ضمن حقل التجميل، أي إضفاء البنية الفنية ــ الجمالية على ما هو مختار من الواقع. ووظيفته الأساسية التوثيق والاحتفاظ بما هو معرّض للاندثار والمحو العفوي والمقصود، كالأماكن الشعبية ومواطن الآثار، التي تتعرض للإهمال والتخريب المتعمد. لاسيّما الأماكن ذات الصفة الأثرية.

وعكس حقيقة جهد الفنان، وهو تسجيل صورة الواقع، وتوثيق طبيعة العلاقات الاجتماعية في ذاكرة اللوحة، التي تظهر كما لو أنها حياة نابضة، بفعل حقيقة مكوّناتها. فهي بهذا المعنى الأكثر واقعية، لأنها تتعامل مع الواقع بإبداع مدهش كجنس إبداعي تعمل على توثيق العلاقات (الأسرية، الاجتماعية والسياسية وتاريخ المُدن والحارات الشعبية، الحِرَف، ثم تاريخ القوميات والجماعات الاثنية والطقوس).

وبهذا الاهتمام والوظيفة تستكمل محيط دائرتها، الذي لا ينفّك يتوسع عند هذا الفنان أو ذاك، أو يكتسب خاصية جديدة مضافة إلى تاريخ الفن. أما تأثيرات الصورة على المتلقي، فهي بمثابة محاولة وضعه ضمن دائرة مرّحلة، أي سحب المتلقي في اتجاه أزمنة منصرمة، مما ينتج حالات وظواهر إنسانية لديه مثل (الفرح، الغضب، الحزن، الثورة، التحريض).

كل هذه المفردات تنعكس وفق المكوّن النفسي للمتلقي، لأنه يُقدم أنموذجاً يتداعى مع خواطره وحراك ذاكرته، مما يثير العاطفة الإنسانية، لأنها مبوبة لمجالات ضمن الحقل، الذي تُشير إليه وتعمل فيه. فالرائي الذي ُيشاهد لوحة تجسد رأس الحسين مثلاً، أو حرق الخيام، ومشهد الدماء.. كل هذا يُثير مزيجا من عاطفته وغضبه واحتجاجه، ويحرث في مكوّنه الميثولوجي، فتصدر منه سلوكيات مختلفة في وسائل وأنماط تعبيرها؛ معبّرة عن موقفه إزاء ما يرى. أو ما ترويه له اللوحة من حدث دامي تراجيدي ميثولوجي، تربطه بمعتقده ومكوّنه الفكري والديني.

وهكذا يسري تأثير الفن، بتعدد أغراضه الذاتية والموضوعية، تلك التي تتصل بحياة المتلقي، أو تاريخ الجماعة، التي ينتسب إليها الإنسان. فالموت يقابله الحزن، ومظاهر البهجة يقابلها الفرح. وهكذا تتوالى الثنائيات في المشهد الحياتي للإنسان، وهي خاضعة لحقيقة موّثقة.

ومن الوظائف التي تُثيرها اللوحة؛ هي حالة التأمل في المحتوى، وحصراً في حيوات اللوحة، ذات المحمولات الفلسفية، التي تُثير أسئلة المتلقي، عبر ما يجده ضمن كادرها، وحالات الأشياء في المكان. فمثلاً إذا كان ثمة مجموعة من الكراسي مرسومة بشكل عفوي يعكس تبعثرها كل إلى جهة، فهذا يُشير إلى اختلاف من كانوا جلاساً، والعكس يصح. وهذا بطبيعته يقود إلى متن انثروبولوجي خالص. فالرائي الدارس للوحة، يأخذ بالنتائج ليدرس الظواهر الاجتماعية السائدة في الزمن. واللوحة في هذا المفهوم هي عالم واسع، والعين ترى العالم المرئي، كما يسكن الإنسان بيتاً كما ذكر (ميرلوبونتي). الفنان يحاول من خلال اللوحة ومكوّناتها أن يسد النقص الحاصل في الواقع، بما له علاقة مباشرة بالحس الذاتي لتجسيد الحس الإنساني العام، وترميم ما هو مخرّب. وبهذا يكون عمل المصوّر والتشكيلي هو التعامل مع الواقع، وفق تصوّره الذاتي، أو بما هو محمولات الذات، فهو ووفق (سيزان) القائل إن الطبيعة في الداخل، وليس ما نشاهده أمامنا. بمعنى ما ينعكس في الذات من جمال لها. والفنان يتعامل مع ما يرى بحسه الفني، لا مع ما هو موجود فقط. فمن القبيح يصنع الجمال، والعكس صحيح.

إن الحركة الدائرية، التي تنتجها اللوحة؛ تنتج جدلياً ما يدور ضمن محوّر الداخل والخارج؛ أي بين داخل اللوحة وخارجها. وهي الفرصة أو الفسحة، التي تُتيح للفنان مجال تقديم وجوده الداخلي، عن طريق تصوير الوجود الخارجي. وبهذا تتحقق في إنتاجه من المشاهد ما يحقق تكافؤاً فطرياً لإنتاج المعادلة الإبداعية؛ في كونه يحقق ما يراه، لأنها وسيلته في التعبير عن وجوده في الزمان والمكان. فهو كباقي المبدعين، أو من احترفوا الإنتاج الإبداعي، الذي هو وسيلتهم لتنظيم العلاقة مع العالم.

فمثلاً تكون الكتابة تحقيقا لداخل الشاعر والروائي لتشكل مادته في التعبير، بينما الفنان يستند إلى رؤاه، التي تُشير إليه باختيار طريق اقتناص زوايا الوجود الإنساني. فهو ــ أي الفنان ــ عبارة عن فاعل اجتماعي، ينتج لوحة، باعتبارها تتعامل مع شريحة من الزمان والمكان، وتعكس علاقات قارّة بين الأفراد والجماعات، وتكوّن جماليات الوجود وخرابه، دون الاهتمام بالمسبب والنتيجة باعتبارهما عائقاً. فجدلية اللوحة تنبع من داخل محتواها الفعلي (الساكن / المتحرك).

إن فعل الفنان باعتباره أحد منتجي صور الواقع، يدفعه إلى مستوى يمتلك خلاله قدرة ذاتية على سد وملء الفراغات التي تؤكدها تصوّراتنا الذهنية عن أزمنة مختلفة؛ الماضي والحاضر، وعكس الرؤى المتمكنة بإيجاد صلة بين المتلقي والمحتوى في كل زمان ومكان، فاللوحة تعمل على إثبات ما هو ممحو من الذاكرة، أو ما ننعته بالمشهد المؤجل. وبهذا تكون حاملة لمجموعة علامات تشكل عناصر مهمة. أما العلاقة بالمخيّال، فهي مبنية كما في بقية الفنون والأجناس، على عنصر التحفيز الذاتي للمتلقي، وعنصر تجاذب وتجاوب معه. وبهذا تحصل على مجموعة دوافع للصعود بالمحتوى إلى مراتب التخييل، الذي يمتلكه الرائي، والحوافز متوفرة في محتوى اللوحة، بما يمكّن من التعبير عن التخاطر، الذي هو خطوة مهمة في تحفيز الخيال. فالرائي لا يكتفي بالمحتوى مجرداً، وإنما يخلق مجموعة علاقات يتصوّرها، ويبني عليها وفق عمق تجربته وتاريخه مع الجماعة.

فاللوحة بهذا القدر من القيمة الفنية والموضوعية، تقترب من فعل المرآة العاكسة للأُصول والجذور الاجتماعية، التي يستحضرها المتلقي، وفق خصب مخيّلته وبعده الأنثروبولوجي، الباحث عن العلاقات الكبرى والصغرى، التي تخلقها الجماعات والأفراد في التاريخ.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي