رواية بيدرو بارامو: المنظور الطيفي و سردية ما بعد الاستقلال

2024-04-16

رامي أبو شهاب

تُعدّ رواية «بيدرو بارامو» للكاتب المكسيكي خوان رولفو- نُشرت لأول مرة عام 1955- عملاً رائداً في الواقعية السحرية، أو أنها يمكن أن تعدّ حجر الزاوية في هذا النوع من الأدب كونها مزجت بين الخارق للطبيعة واليومي، بطريقة أثرت في العديد من الكتاب في أمريكا اللاتينية والعالم. تدور أحداث الرواية في قرية خيالية في المكسيك تُدعى «كومالا» وتُسرد الأحداث عبر سلسلة من الروايات المجزأة، أو السرد المتشظي الذي يتنقل بين الماضي والحاضر، وبين الشخص الأول والثالث.

خصوصية النموذج

تبدأ الرواية من البطل خوان بريثيادو الذي يعد أمه الحانقة بأنه سيعود إلى بلدة كومالا كي يجد والده «بيدرو بارامو» أو الرجل الذي لم يلتق به أبدا، غير أنه عند وصوله للبلدة، يكتشف أن كومالا أمست مدينة أشباح، تقطنها أرواح سكانها السابقين، ومن هنا، فإن هذا النسق يعدّ محفزاً ناجحاً لتمكين تقنيات سردية تعتمد التفاعل مع هذه الأرواح من خلال «الفلاش باك» أو الاسترجاع، كما الحوار كي تتكشف لاحقاً قصة بيدرو بارامو (والد البطل) في بلدة كومالا.

من خلال ربط الأجزاء نخلص إلى أن «بيدرو بارامو» كان مالك أراض قوياً ومخيفاً، سيطر على القرية، وسكانها بقبضة من حديد، فهو أقرب إلى ديكتاتور، ومع ذلك فقد شهدت حياته الطموح والخيانة والمأساة، بما في ذلك حبه الهوسي لسوزانا سان خوان التي فقدها، فأدى ذلك إلى تدهوره عاطفياً وأخلاقياً. وتتجلى لحظات احتضار سوزانا ضمن البنية السردية حد التوهج الشعري؛ ذلك أن هوس بيدرو بارامو بسوزانا كان مركزياً في بنية الرواية، فعلى الرغم من زواجه منها، إلا أنه لم يجد السعادة، بل أدى موتها إلى انهياره العاطفي الكامل، ومن هنا يمكن تبرير اللغة السردية المتقنة – ترجمة صالح علماني- التي أضافت إلى العمل الكثير من الفتنة عبر الجمل الحوارية، ولاسيما مشهد احتضار سوزانا، أو غيرها من شخصيات القرية المسكونة بظلال من الكآبة حيث نقرأ: «هنالك قرى لها طعم التعاسة. يمكن معرفتها باستنشاق قليل من هوائها القديم والخدر، البائس والنحيل مثل كل شيء هرم. وهذه واحدة من تلك القرى يا سوزانا».

وفي مقطع آخر نقرأ: «وعندما رقدت لأموت، رجتني أن أنهض وأتابع جرجرة الحياة، كأنها ما تزال تنتظر معجزة تنظف خطاياي».

إن رحلة عودة الابن «خوان» قد تبدو أقرب إلى رحلة رمزية للبحث عن الهوية أو معنى الانتماء للذات، بمعنى أنّ التكوين يرتهن للماضي الذي تجسّد عبر استحضار النموذج الطيفي أو الشّبحي ضمن مقولة النقد الطيفي، وما يحمله من منظورات تجاه قراءة وقائع الماضي، وهي صيغ وُجدت من قبل في أعمال شكسبير، والآداب التي تتخذ من المناخات القوطية فضاء لها، وبذلك يكون الخارق للطبيعي جزءاً من مركزية التكوين، حين نرى كيف يتواصل الموتى مع الأحياء من أجل تعرية تاريخ البلدة المأساوي، ذلك أن النقد الطيفي في الأدب ينفتح على نقاشات حول كيفية تعامل السّرديات مع وجود الغائب، ودور الذاكرة، بالإضافة إلى تأثير الأحداث التاريخية على الحاضر، علاوة على الطرق التي يتمظهر فيها الأدب بوصفه فضاء يساعد على استكشاف – أو التعبير عن- ما هو غير محلول أو مكبوت، وتعود جذور هذا النقد لجاك دريدا، ليتطور في ما بعد بصورة منهجية على يد جوليان ولفريز، وكولين ديفيز.

يهدف هذا النسق السّردي إلى تمرير رسائل تنهض على تحليل مواجهة القيم التي أنتجت ثقافة ما، فعالم الأب قد عمل على صوغ البنى الثقافية التي أنتجت تشوّهات عميقة لم يكن من الممكن فهم أبعادها، دون مواجهة الماضي، وبذلك نستطيع تبرير نقد التاريخ، مع محاولة بناء سلسلة من المفاهيم، بيد أن هذا النسق بُني على مقولة استعارية تختزل الوعي الجمعي المكسيكي، ما مع يحمله ذلك من رمزية للسلطة، التي نتجت بعد الاستعمار، فالقرية تعني فضاء المكسيك، والابن ـ في رحلة العودة – إحالة إلى المجموع الكلي للذات المكسيكية في وعيها الجمعي.

تذهب الرواية إلى تصوير الفساد والعنف الذي ميّز حكم بيدرو بارامو للبلدة، وثنايا هذه الثيمة تبرز القضايا الاجتماعية والسياسية الأوسع في المكسيك في ذلك الوقت، ومن ذلك نقرأ: «لقد تمردنا ضد الحكومة وضدكم لأننا سئمنا تحكمكم بنا. الحكومة لأنها سافلة، وأنتم لأنكم لستم إلا جماعة من الأوغاد الشرهين واللصوص المترهلين بالدهن».

داء السلطة

نقرأ في شخصية الأب بعداً ينطوي على منظومة ثقافية شاعت في تلك المنطقة عبر صعود بيدرو بارامو إلى السلطة بعد أن كان مزارعاً فقيراً، غير أنه سرعان ما تحول إلى إقطاعي، فلجأ إلى ترويع أهل كومالا ليستولي على السلطة عبر العنف والقتل والقسوة، والتلاعب… فضلاً عن تحقيق ملذاته تجاه النساء، وحشد من الضحايا.. ما يقود في النهاية إلى موت البلدة روحيا وحرفيا، وبهذا فإن هذه الشخصية قد تبدو انعكاساً لأي ذات سلطوية خرجت من عباءة الاستعمار، ومارست الوسائل الكولونيالية عينها، كما في العديد من الدول التي نالت استقلالها بعد مرحلة الاستعمار، ومن هنا، تلعب عملية استكشاف الذاكرة دوراً عميقاً في فهم تشكل الهوية والواقع من خلال تمثيل العلاقة بين الماضي والحاضر، فكان لا بدّ من الخروج عن السرد التقليدي الخطي، كي تتكشف أصوات الأموات عن جملة من الصدمات العالقة أو غير المحلولة في بلدة كومالا.

تعلق الرواية بمحاولة تعرية موضوعات تتصل بالسلطة، والوحدة، بالتضافر مع تأثير الماضي على الحاضر، والخطوط الغامضة بين الحياة والموت، وهي بنى فلسفية تثير الكثير من التساؤلات، لكنها أيضاً تبقى مرتهنة إلى العالم السردي الثري، والشديد الخصوصية، فالرواية في زمنها قد بدت تكويناً مغايراً أو غير مسبوق حين فتحت مسالك جديدة للكتاب، إذ يمكن أن نعدّها عملاً تأسيساً في تاريخ الرواية الحديثة، ما دفع النقاد إلى تقديم تفسيرات وتحليلات مختلفة للعمل، ولاسيما البنية السّردية المبتكرة، بالتضافر مع تقدير قيمتها الثقافية، ومع ذلك، فلا يمكن أن ننكر أن عملية تلقي الرواية ليس بالأمر الهين نظراً لبنيتها المتشظية، وخرق النموذج الخطي للسرد، فهي قد تعمد إلى التعقيد، أو لنقل بعبارة أخرى الغموض الذي يحفز عملية التلقي للبحث عن تداخل عوالم الشخصيات، فنلجأ إلى تجميع القصة من خلال ذكريات وأصوات الأموات، ومنهم شخصية سوزانا سان خوان، وشخصية الأب رينتيريا، كاهن مدينة كومالا الذي عانى من الصراع الأخلاقي بين واجباته الدينية، بعد أن تورط في فساد، ما يحيل إلى فساد الكنيسة نتيجة قبول الرشاوى من بيدرو بارامو، بداعي غفران خطايا ابنه ميغيل، ما يسلط الضوء على الفساد والانحطاط الأخلاقي في كومالا بصورة عامة. ولعل بلدة كومالا بوصفها شخصية سردية ـ إذا ما شئنا أن نقول – هي تجسيد لمعنى العزلة والوحدة بتكوينها العام، أو بوصفها بلدة تقع بين قوى متصارعة، بالتوازي مع أثر ذلك على الشخصيات، وعلاقتها بالمكان، ما ينقلنا إلى معانٍ إنسانية أوسع يمكن أن تنسحب على الكثير من الأمكنة في العالم، التي نهضت على وقائع التشوه الناتج عن الاستعمار، من ذلك ظهور قيم النخب المحلية، وحالة الفساد الذي أدى إلى إنهاك كل من الإنسان والمكان والزمن.

ما بعد الاستقلال (نسق متكرر)

يمكن تحليل الرواية من خلال منظور ما بعد الكولونيالية، حيث تقدم الرواية نقدا لفشل الدولة المكسيكية ما بعد الثورة، بعد أن وعدت بإصلاحات، وتطوير اقتصادي واجتماعي، غير أن هذا لم يتحقق، في حين أن الرواية تلقي الضوء على آثار الإرث الإقطاعي والاستعماري المستمر على المجتمع، مع تصوير الرواية لما قامت به القوى الناشئة من استغلال، وتسبب بمعاناة حتى بعد نهاية الحكم الاستعماري. تتناول الرواية ضمن مستوياتها المتعددة موضوعات مثل العرق، والجنس، والدين، التي تعود جذورها إلى استعمار المكسيك من قبل الإسبان، وهكذا ُنظر إلى عمل رولفو ـ الزاهد بالشهرة والمنعزل – على أنه استجابة للماضي الاستعماري، وتأثيره على الهوية والثقافة المكسيكية، فلا جرم أن يتقدم السرد المجزأ، بالتضافر مع توظيف الواقعية السحرية، من أجل التشكيك في الروايات التاريخية المُقررة، ولإعادة النظر في تعقيدات المجتمع المكسيكي في مرحلة ما بعد الاستعمار عبر شخصية بيدرو بارامو التي تعدّ مركزية في هذا النهج، أو تمثيلاً للنماذج التي أفرزها الاستقلال، ولعل هذا لا يبتعد كثيراً عن وقائع الثورات المجهضة بعد الربيع العربي، أو بعد مرحلة الاستقلال، مع ما سكن بعض المدن العربية من خيبة ومرارة، بعد كلا المرحلتين، كما هو حال بلدة كومالا، إلى حد أننا نكاد نستشعر طعم الخيبة في كل جزء من الرواية بدءاً من الصفحات الأولى، ولاسيما حين يعلم «خوان» بأن والده قد هجره، وتخلى عنه، وما أعقب ذلك من رحلة إلى البلدة، فيسافر مع شبح، ويستقبله شبح آخر، ويمضي في حوارات مع أشباح الضحايا التي تضطلع بسرد حكايتها.

هكذا نخلص إلى أن الرواية قد بحثت في معنى الأرض والهوية، بوصف الأولى مصدرا للقوة أو علامة على الهوية، فقد استطاع الروائي رولفو توظيف بنية سردية حوارية شديدة الحساسية تجاه تمثيل البلدة بهدف تعميق قضايا الإرث، والخسارة، والبحث عن الانتماء، وفي الأرض عينها… أو المكان يبقى الحب جزءاً من معادلة تسم تكوين الإنسان، على الرغم من تعقيد شخصيته، وجبروتها كما في شخصية بيدرو بارامو، فعلى الرغم من حبه لسوزانا سان خوان، غير أن موتها كان سبباً في ضعفه، وانحسار قوته، ما يحيلنا إلى أثر الحب في تكوين ماهيتنا، وهشاشتنا على الرغم من التعطش للثروة والسلطة.

كاتب أردني فلسطيني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي