«أحبك يا أرض».. تمازج الخيال بالواقع لدى اليافعين

2024-04-16

بدر الدين هوشاتي

على خطى الأدباء المجدّدين، الذين ولّوا وجهة أقلامهم شطر فئة اليافعين من القرّاء، يأخذنا نورالدين بن بوبكر، عبر ثلاث رحلات، إلى عوالم امتزج فيها الواقع بالخيال، ضمن مشهدية كرنفاليّة ممتعة، تنوّعت فيها الشّخوص والأمكنة تنوّعا يتماهى مع طبيعة الحكي لأحداث تُحبك وفق بنية دائريّة للسّرد، تنفتح بدءا على واقع إنسانيّ معيش، لا غرابة فيه، لتنغلق عليه منتهى، وبين الواقعين أطلق العنان للخيال ليفعل فعله في عقول يافعة تستحضر ما اختزنته الذّاكرة الصّغيرة من صور حول الإنسان الآليّ والكائنات الخارقة ورجال الفضاء المتربّصين ببني البشر، يريدون بهم شرّا، غير مؤكّد.

«حسّان وحارس الكنز» أولى الرّوايات الثّلاث، باشر فيها نورالدّين بن بوبكر رحلة غلب عليها الخيال، تجوّل بنا، من خلال شخوصها وأحداثها، بين العصور منذ الحجريّ إلى الحديث والمعاصر، حيث نعيش مأزومين وقد تلبّستنا أسئلة معلّقة لا أجوبة عليها. الرّواية الثّانية «عفوا أيّها الجبل» رحلة راوحت بين عالمي الحقيقة والخيال بطلها حسّان، ذاك اليافع الطّموح، الشّغوف بالعلم، المهوس بالمعرفة والبحث، ابن المدينة المنجميّة، التي كره فسفاطها ونقم عليه، لكنّه سرعان ما يعدّل بوصلة تفكيره ومشاعره، بعد مغامرة قادته إلى عالم عجيب، انبجست له منه أسرار وخفايا جعلته يستشرف مستقبلا أفضل، إذا استمسك بعرى العلم وتسلّح بالعزم والمكابدة، لمقاومة التّخلّف وضيق الأفق.

«أحبّك يا أرض» رواية يكتمل بها الضّلع الثّالث لعمل إبداعي مشوّق، سار فيها الكاتب على خط ما سبقها، تمشّيا حدثيّا وصوغا قصصيّا، تنفتح على حوار حميميّ بين حسّان وأمّه، غاب عنه الأب مصطفى واقعا، وحضره موقفا، فبين خشية الأم على ابنها من الأسفار ومخاطرها، وبين تحفيز الأب له على المغامرة واكتساح الآفاق القصيّة للمعرفة والبحث، اعتمادا على الذّات، ينتصر حسّان لصوت والده، الذي كان قد لقي في نفسه هوى بعدُ. وتنطلق المغامرة في رحلة كشفيّة مع صحب ( سحر/ شادي/ سامي/ أحمد…) لا يقلّون عنه تحمّسا، وقائد (شعيب) أحنّ عليه من نفسه لما وجد في هذا الفتى المغامر ما لم يجده في غيره من الفطنة والذّكاء وحبّ السّؤال، الذي بدا أكثر إلحاحا عند المرور –وهم في الطّريق إلى المخيّم- بالمدينة العجيبة، التي لا تفتح أبوابها إلا مرّة في الشهر، ليلة اكتمال القمر بدرا منيرا، وما كان لفضول السّؤال أن يبقى دون إرضاء، إذ وفّرت الزّيارة فرصة التّعرّف إلى قلعة تنتمي إلى الأرض، بيئة وتربة، لكن تنفصل عنها بنظام حياة هو إلى العوالم الخارقة أقرب.

ومهما كانت درجة التّمايز مع العالم المألوف، التي وقف عليها حسّان وصحبه في هذه المدينة، إلا أنّ ذلك قد رسّخ فيهم القناعة بأنّ تغيير الواقع الرّاكد أمر ممكن، إذا تبنّت البشريّة ما صدح به الفتى «أريان» ابن المدينة العجيبة، الذي استنهض همم بني جلدته للانبعاث من رحم الرماد كطائر الفينيق، بعد ما مرّ بهم من الوباء، الذي ذهب بكبيرهم قبل صغيرهم: «علينا أن نكون فاعلين بالذكاء والعالم الرقمي والذّكاء الاصطناعيّ».

ولعلّ هذا الصّوت الذي بقي يرنّ في أذن حسّان، فضلا عن وصايا أبيه، هو الذي أمدّه بالقوّة ورباطة الجأش، عندما فوجئ –وهو في نوبة الحراسة للمخيّم- بالمخلوق العجيب القادم من مركبة فضائيّة تجوس المكان ليلا وتستكشفه، وجها لوجه وجد حسّان نفسه أمام «سيموكورو» بملامح، كثيرا ما تخيلها لغرباء فضائيّين في السّابق، لكنها الآن حقيقة جاثمة بكلكلها أمامه، أفسدت عليه ما كان فيه من لذّة السّؤال حول أسرار المدينة العجيبة المنطوية على نفسها، ومصير «آريان» الذي اختفى فجأة ذات صباح. بدأ اللّقاء مع هذا المخلوق أوّل الأمر عدائيّا ومستفزّا، لكنّه سرعان ما آل بعد السّؤال والجواب وتجاوز رهبة المفاجأة الأولى إلى الاتّزان والهدوء، لتمتدّ بين الطّرفين جسور من التّواصل تدعّمت بانضمام «موداكال» المخلوق الفضائيّ الثّاني، للمحاورة التي انتهت باطمئنان حسّان للزائرين الغريبين، والتّأكّد من نواياهما الخالية من أيّ نزعة عدائيّة تجاه الأرض والبشر.

بل إنّ المحاورة كشفت الرّغبة لدى المخلوقين في توسيع المعارف حول عالم الإنسان الذي لا تبدو صورته – وهو يعمّر الأرض- على النّحو الذي يبلغ به ما يعيشانه في كوكبهما كوكب «بيسكودا» من تطوّر تكنولوجيّ فاق التّصوّر والخيال، فهذا الإنسان مجبول على «حبّ السّيطرة واستعمال الطّرق المشروعة وغير المشروعة للوصول إلى المبتغى» وهو كائن «أخطأ في ممارسات عديدة كان يعتبرها بديهيّة، وخاصّة في علاقته بالطّبيعة، التي أنهكها كثيرا وقسا عليها». وكما كان صوت «آريان» محفّزا على المعرفة في السّابق، ها هي ملاحظات الفضائيّين تستفزّ حسّان وتشجّعه على معاينة ما به تحقّق لكوكبهما من التّطوّر، لعلّه يكون سبيلا إلى استنساخ التّجربة في الأرض، ليبدأ من فيها من بني البشر عهدا تتغيّر فيه الوسائط وتسمو المقاصد.

في هذا المستوى من الأحداث يخوض حسّان رحلة عبور منطلقها الأرض ومنتهاها كوكب «بيسكودا» ضمن سفر خرافي تلاعب فيه الكاتب بالمكان والزّمان ماهية وحدودا، كما جعل بطله يعيش المغامرة بازدواجيّة غريبة في المشاعر، بين تحمّس وفتور، بين رغبة ورهبة.. كلّ ذلك وهو في خضمّ إبحار معرفيّ في عوالم من الكواكب السّابحة في أرجاء الفضاء الفسيح، ليست الأرض فيه إلا نقطة ضوء في بحر لجيّ أو عالم من الدّيجور. والغريب أنّ الكواكب (باستثناء بيسكودا) التي مرت بها المركبة وحسّان في داخلها، كانت عصيّة على التّكشّف، بسبب ما أحاط بها من غموض ومخاطر، وكأنّها تستعدي كل من رام هتك حجبها، وتلك حقيقة اقتنع بها حسّان في نهاية رحلته، فلا مكان أجمل من الأرض لاحتواء هذا الإنسان، رغم التناقضات التي تلبسه، فتحيله أحيانا عدوّا لنفسه ولبيئته، لذلك قال حسّان: «كان يجب عليّ أن أغادر الأرض حتّى أعرف قيمتها، لأنّ أشياء كثيرة لا نعرف قيمتها إلا عندما نبتعد عنها».

غادر حسّان الأرض وعرف قيمتها ووقف على حقيقة مشاعره… وكم أحبّها تلك الأمّ الحاضنة… تلك أرضنا.

رواية «أحبّك يا أرض» عمل أدبيّ مجدّد جمع بين طرافة المضمون وسلاسة الأسلوب، عمل يستفزّ القارئ لينشأ لديه السّؤال حول الحدود بين الواقع والخيال، بين المتاح وغير المتاح، سؤال قد يجد إجابته فيما تضمّنته الرّواية من مقاطع حكائيّة أهمّ ما فيها أنّها أنشأت ممرّا لرؤية لا يحدّها زمن، وتجاوزت إكراهات الرّاهن وحضوره السّلبيّ، الذي يقف دون تقدّم الفعل الإيجابيّ وأهمّ عنوان فيه الذّكاء الاصطناعي.

لقد وفّرت هذه الرّواية فرصة لمصافحة خبايا الكون، والتّعرّف على موقع الإنسان فيه، والوقوف على ما هو منتظر من جيل الذّكاء الاصطناعيّ، الذي تحمل عليه مسؤوليّة العمل الجادّ، من أجل تغيير صورة الأرض وتعميرها، بما يتيح طيب البقاء ورغد العيش… ذلك هو حلم حسّان، بدأ محلّيا لا يطمح إلى أكثر من أن يرى مدينته، ذات الجبال الصّلدة تنعم بالتّطوّر، فيستطاب فيها المقام، غير طاردة لأهلها إلى غير وجهة، وانتهى كونيّا بأن يرى الأرض، كوكبه، حاضنة كالأمّ الحنون لأبنائها، ينعمون بخيراتها، لو أنّهم لا يجحدون ما فيها من سبل الرّفاه والمقام الكريم… ذاك حلم في المنام، في اللاوعي … لكن من يدري عساه يكون حقيقة ذات يوم… أليس الصّبح بقريب؟

كاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي