رواية «حارس المنارة» للعراقي فخري أمين: التخييل مسافة مفتوحة لرؤية التاريخ

2024-04-17

مروان ياسين الدليمي

في روايته الموسومة «حارس المنارة» التي صدرت نهاية عام 2023 عن دار نشر سَنا، يذهب فخري أمين بعيدا في مخياله السردي، وهو يتصدى لتاريخ منارة الحدباء الشهيرة في مدينة الموصل، إلى الحد الذي يتراجع السياق المنطقي للتاريخ أمام سلطة ما أسسه من أسطرة في نصه الروائي، منطلقا في رؤيته، من الحضور الراسخ للمنارة، في الذاكرة الجمعية لسكان المدينة على مدى أجيال، منذ أن بنيت قبل سبعة قرون (1170م) في عهد الوالي عماد الدين زنكي، وطيلة هذه الفترة التاريخية الطويلة فإن المنارة «قاومت السقوط في زمن المغول والحروب الصليبية، وحقب كثيرة من الردات والثورات، وصمدت تحت ضربات عدد يفوق كل تصور من ميغاوات أشعة الشمس الساقطة عليها عبر أكثر من تسعة قرون، وأرقام فلكية لا يمكن تخيلها من هطولات مياه الأمطار، ولم تنل منها منجنيقات الغزاة ولا صواريخ الطائرات عبر تاريخها الطويل». وكان لبقائها سبب جوهري في أن تصبح جزءا أصيلا من ملامح المدينة، وعلامة فارقة وسامقة يستدل السكان من خلالها على أي مكان واتجاه يقصدونه، وبات من غير الممكن على الموصلي أن يتنفس الهواء إذا صحا في يوم ما ولم يجد منارة الحدباء، لذا كان حدث تفجيرها عام 2017 أيام تحرير المدينة من سلطة تنظيم «داعش» الإرهابي، لحظة فارقة في تاريخ سكان الموصل، فقد ترك أثرا موجعا فيهم، يصعب عليهم تجاهل ما خلفه من أسئلة تدور حول هويتهم ووجودهم ومستقبلهم.

اكتشاف الهوية

حاول أمين أن يعيد اكتشاف الهوية الموصلية، من خلال اعادة كتابة تاريخ المنارة، وارتباط ذلك مع التاريخ الاجتماعي والديني للموصل، لكن قيمة ما أنجزه المؤلف ليس في إعادة لملمة تفاصيل لها صلة بالجانب التاريخي المتعلق بالمنارة، بقدر ما يرتبط إنجازه في القيمة الفنية التي جاء عليها النص الأدبي، وفي مقدمة ذلك قوة سلطة التخييل التي فرضت حضورها، وهذه هي الرواية الثانية لأمين بعد روايته الأولى «أجنحة الفراشات» التي صدرت عام 2020، والاطلاع على روايته الثانية يدفعنا إلى الإقرار بأن أمين، إضافة إلى ما يمتلكه من لغة سلسة، وتمكُّن في إدارة السرد، فهو على قدر عالٍ من جرأة التخييل عندما يتواجه فنيا مع التاريخ، إذ يعلي في نصه الروائي من شأن التخييل عند تعامله مع الواقع والتاريخ، إيمانا منه بأن قراءة الروائي للتاريخ في مشغله الإبداعي، فيها مساحة شاسعة من الحرية، في إطار العلاقة مع الزمن والأشياء والأحداث والشخصيات، طالما أن تحرير النص الإبداعي لا يخضع في مساره السردي لسلطة المدونات التاريخية الوثائقية، يتضح ذلك بشكل جلي في رواية «حارس المنارة» فقد شاء أمين أن لا يكتفي بأن يكون قارئا فاحصا للتاريخ المكتوب، بل ساردا روائيا لهوامش سقطت من متنه، كلها مقرونة بمواقف وتفاصيل لها صلة بعامة الناس، ولكي يحتفظ نصه الجامح بتخييله، بخيط رفيع مع الواقع، أبقى لشخصياته التي استعارها من مدونات التاريخ ما تحمله من أسماء وأفعال ارتبطت بها، مثل شخصيتي المعمار إبراهيم الموصلي وعبود الطنبورجي، اللذين كان لهما الدور الأساس في عملية بناء المنارة.

السرد والأسئلة الجوهرية

لا شك في أن المؤلف طرح على نفسه أسئلة جوهرية، تتعلق بماهية علاقته كروائي بالمادة التاريخية، والصورة التي ينبغي أن تكون عليه في النص الأدبي، وهل المطلوب منه أن يعيد سرد التاريخ، أم الاشتغال في منطقة أخرى وبأدوات فنية لا يستطيع المؤرخ الوصول إليها والتعامل بها؟ ونستشف الإجابة على هذه التساؤلات من خلال قراءتنا للنص الروائي، فقد كانت مدونته مغامرة فنية جوهرها التخييل، بواسطتها تمكن من تحديد شكل علاقته مع المصادر التاريخية، ومعالجتها في منتجه الروائي، بالشكل الذي يصبح النص معادلا للمادة التاريخية التي تشتغل عليها الرواية. في الوقت نفسه فإن مقترحاته الإجرائية التي انحاز إليها في تشكيل نصه الروائي، منحت القارئ فرصة أن يمارس هو الآخر دوره في القراءة الذاتية للتاريخ، لكن ، عبر النص السردي المتخيل، فإذا ما توقفنا عند الشخصية الرئيسية، التي هي السارد الوحيد للأحداث، سنجد المؤلف في بنائه لهذه الشخصية قد حررها من النمذجة الواقعية، على الرغم من أنها في تفاصيل جذورها وانتمائها كانت واقعية «أنا عامل بسيط. بيتي جوار الجامع الكبير ليس ملكي، أمضيت سنوات نسيت عددها، أحرس منارة تشيخ» بينما في مكان آخر من الرواية يحيلنا المؤلف إلى تكوين صورة مؤسطرة عن هذه الشخصية، حيث تجاوزت كل الحدود المعروفة لأعمار البشر العاديين، متساوقة بذلك مع التاريخ العريق للمدينة، ومع فضائها الاجتماعي المعبر عن نسقها الحضاري، لتستحيل شخصية السارد حارس المنارة بفردانيتها، إلى كناية عما هو جمعي، ما منحها حضورها الواقعي، على الرغم من طغيان البنية الأسطورية في بنائها «لا أحد يعرف حقيقة ما يجري أثناء جلستي اليومية غير الحذرة على حافة الطرف الجنوبي لقاعدة المنارة، يحدث فجأة شيء عجيب، يتحول الهواء أمامي إلى مرآة هائلة في عمقها تجري أغرب الأحداث، تعرض لي لقطات من أحوال الناس في مختلف الحقب، أطل من ارتفاع ذلك المكان على مسيرات الزمان، أرى في لقطات واسعة قوافل البشر تسير مثل نمل في خطوط متعرجة، وفي لحظات تبتلعهم الأرض، ثم تقترب الرؤية وتغور في تفاصيل بعض المشاهد. وكنت أشعر بنفسي قادرا على التأثير في مجريات أحداثها».

التخييل السردي وتأصيل الوعي

إن فخري أمين في روايته هذه، عمل في إطار إعادة تأصيل الوعي بأهمية مدينة الموصل، باعتبارها كانت عبر التاريخ مشروعا مدنيا، ضم في بنيته الاجتماعية تنوعا ثقافيا وإثنيا قائما على ثوابت قيمية أساسها التعايش والتسامح والتفاعل، فكانت مدونته السردية، بكل ما حفلت به من استعادة لوقائع وأسماء تاريخية، وما ظهرت عليه بنيتها الفنية، بمثابة مواجهة مع قيم التعصب والتطرف، التي أخذت تعصف بالحاضر بعد أن مرت على المدينة خلال العقدين الماضيين أحداث جسام عملت على تفكيك وتشظي مجتمعها، ويمكن القول إن أمين تمكن من استقطاب العناصر التي تحث المتلقي على تحفيز مخيلته ووعيه في اتجاه البحث عن لحظات فردية تمتلك في داخلها صفة التعميم، لتكون عناصر فعالة ضد ما يشهده الواقع من تفكك وانهيار.

الرواية تمزج التاريخ بالمتخيل، بما حفلت به من مكونات فنية قائمة على استرجاع الزمن وترهينه، باستناد حبكتها على تقنية ما هو محتمل، مشيرة بذلك إلى أن الفن الروائي المتحايث مع التخييل، يحيلنا إلى مسافة مفتوحة لرؤية التاريخ، لكن من منظار جمالي ذاتوي، بالتالي سينعكس ذلك على العلاقة التي تجمع بين النص الروائي والمتلقي، بمعنى الأخذ بالقارئ إلى منطقة يكون فيها قادرا على اتخاذ موقع المتأمل المستكشف، وحضور التاريخ هنا، لم يأت بمستوى واحد، فقد عمد المؤلف لتأكيد العلاقة معه على استثمار تقنيتي: الحدث التاريخي، وما هو محتمل أن يكون. فكانت نتيجة هذا الاشتغال التقني، أن خرج العمل الروائي عن سكونية التأطير الوثائقي، إلى فضاء سردي مُركّب امتزج فيه التاريخي بالمتخيل، إلى الحد الذي بات يصعب على القارئ الفصل بينهما، ويفرض عليه أن يكون متحفزا ومتيقظا، وهذا ما يحسب للمؤلف، لأنه تمكن من خلق بنية جمالية محرضة على التساؤل والتفكير، طالما تداخل فيها الماضي والحاضر، الواقعي بالمتخيل، التاريخ بالأسطورة.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي